الجمعة، 3 فبراير 2012

جاذبية الذكريات..

                                                            جاذبية الذكريات..

عندما تُباعد المسافات بين خُطواتكَ فأنت تهرب من ذاتكَ قبل كل شيء..وعندما ترمي بأطراف اناملكَ على لوحٍ مستطيل ,دون موعدٍ مسبق,و تتراقص الحروف عصيةً كدمع عيّنيكَ في حينها فأنت على اعقاب انهيارٍ جديد..عندما تكتب بلا توقف كطفلٍ يحكي يومه السعيد دون تلعثم و بلا تفكير فأنت على فهوةِ بركان الحنين..وويلي من بركان حنيني لا يقذف الإ حمم الشوق الحارقة و لا يجتث إلا قدماي المتشبثتان في أرض الألم بلا أمل.. ببساطة هذا مايعتريني الأن..
خرجت من سكني هرباً من التهاوي أمام وليد عبود وهو يُقلب على التلفازحكمة الراحل نسيب لحود بينما تتلذذ العربية بإعادة تفاصيل شوقي لرفيق رفيق الحريري.على جنبات الطريق بالقرب من مسكني هنا وقعت عينيّ على مبنى حجري ,يتوارى اسمه خلف شجرةٍ كبيرة فكان الطبيعي ان أوي اليه حتى يخفَ جنون الشتاء على الطريق..بالمناسبة لا تنخدع بالأشياء المتراميةِ على الجنبات , لعل ذكرياتِنا تحتمي في زوايا تلك الأشياء من برودة هجرنا لها مكابرةً او خوفاً..كنت أظن أن هروبي من ذاكرتي يحميني من جنونها اذا ماعصفت بي..لذكرى مواعيد نجهَلها و أماكن تتوارى خلفها لا نعرف تفاصيلها.
دخلت الى ذالك المقهى الذي اختلطت فيه رائحة القهوة السوداء مع رائحة الحجر المبلل بالمطر..و كعادتي بين الزوايا و ناظري عشقٌ من اللمحة الأولى و دعوةٌ مخملية لا أُقاومُها..أزحتُ مقعد الماضي الخشبي,خلعتُ معطف الحاضر الذي يحميني من برودة الحنين الجارحة و تحررتُ من وشاحٍ ألتف حول عنقِ فحبستُ به أهاتٍ أكره التلاشيَّ معها..كان كل شي هادئ سوى جنون الشتاء في الخارج..
لا أنني أكذب..
لم يكن كل شي مستكّنٌ في داخلي..كنت اتبعثر من بعثرتِ حالي, من الغباء ان تسحب مقعداً خشبي في طقسٍ ممطر و في أحضان رائحة القهوةِ بعيداً عن كل شي قريباً الى كل شيء..وذالك كان غبائي..
لماذا نستبسلُ بكل أجزائنا القوية في مقاومةِ قراءةِ كتابِ ذاكرتِنا بينما تستبسلُ الأماكن و الأشياء البسيطة في استثارةِ ذاكرتنا..تنجح هي بينما نخفق!هل تنتصر الأماكن لأنها تدافعُ عن حق, حقِ اولئك المغادرون الذين نعزِف من خوفنا عن تَـذكُرِهِم؟هل نَفشل لأننا نحاول ان نحرم المغادرون حقهم في العودة الينا متى ما أرادوا؟ أم اننا نُخفقُ لأننا نحرم المغادرون حقهم في احتساء كوباً من القهوة في الزوايا معنا بعيداً عن صخبِ الحياةِ كما كان يروق لهم فِعلهُ؟ الذكرى حقُ الغائبون و الحق تنتصر أمامه الأشياء..
تصفح قائمة الطلبات هو الحل الوحيد للهروب من التمعنِ في القواسم المشتركة بين الأماكن المتباعدة و القصص المشتركة..ورغم ان القائمة لا تحمل خيارات كثيرة,تماماً كخياراتي مع رياح الذكرى التي بدأ نسيمُها يتراقص من حولي,اخترت الخيار الوحيد العقلاني في القائمة التي لا تحتوي سوى قهوة او عصائر باردة..إما حرارة لهيب الذكريات او جنون شتائها..مواسم الذكريات كلها مؤلمة,قهوة الذكريات مرة ومع ذالك نَحتسيها رغماً عنّا و نستلذ بالإستسلام لمذاقها بعد الرشفة الأولى!
توقفَ لثوانٍ صوت إجلسياس, و الذي صدح لمرتين منذ دخولي الى المقهى.. لحظات صمتٍ لم أدرك ان ماسَيَعقِبُها هو صوت جسدي الذي سيتهاوى,صوت تحطم الواح الماضي الزجاجية أمام عينيّ.. استنطق  ذالك الشاب صاحب المقهى صوت جوش غروبان بدلاً من اجلسياس..استبدل صوت الحاضر بصوت الأمس..
كنت لوقت طويل اظن ان معزوفة غروبان"Starry, starry night "  قد كُتبت لي..من أجلي..كان الرفاق اذا ما أُذيعت هذه الأغنية على المذياع او في مقهى او في أي مكان نظر الجميع اليّ والى انطوان و رقبوا انفاسنا المتصاعدة ثم غَرٍقنا جميعاً في موجة ضحكٍ خجولة..و بعد رحيل انطوان تغير الوضع و تغير معه ردة فعل أصدقائي امامي اذا سمعنا بالمصادفة في مكان ما هذه الأغنية..
اولَ مرةٍ أستمعت فيها الى هذه الأغنية كان في يناير 2005..كانت الأجواء باردة حد التجمد فعشقتها دون أن اعلم السبب,بعض الأغاني كالحب الصادق لا تعرف كيف و لا لماذا تتعلق بها.كانت تذاع على احد المحطات و كنت أقف على شرفة المنزل و أنتشي مع كلماتها و أطلق العنان لأنفاسي المختنقة بصوتٍ عالي.كنت معكرة المزاج منذ صباح ذالك اليوم فقد كان اليوم الرابع على التوالي الذي أحلم فيه بأني أرى والدي يجلس باكياً فرَحاً الى جانب جدتي,خالي,انطوان وأصدقائي في حفل تخرجي من الجامعة.كنت أبرر لنفسي هذه المنامات بأجواء الإختبارات و التخرج التي كنت ارقُبها في تلك الأشهر و أهرب عندما تلتقي عينيّ بأحدٍ خوفاً من ان يرى شوقي لوالدّيَّ او ضعفي الذي أصررت على أخفائه منذ ان أخبرتني جدتي أن والدي مازال على قيد الحياة,بقيت على صمتي و كبريائي أربعة سنواتٍ لدرجة انني لم أهتز ابداً عندما تلقيت بعدها بسنة و نصف خبراً مفاده ان والدتي ايضاً على قيد الحياة و قررت مع والدي العيش بعيداً عن لبنان و عنيّ, جميلٌ ان تجد مبرراً لتصرفات الأخرين فأحياناً خوفك من الإنهيار امام من تحب يجعل مكابرتك أقوى من أي شي..أحياناً و ليس دائماً..
المهم كان أنطوان يجلس على المقعد المقابل لباب الشرفة مبتسماً اليّ وانا أشرح له معاني مفردات الأغنية..كان يرقُب تصرفاتي و يعلم ان نشوتي هذه تحمل في طياتها عصفاً و كأبةً ثارت بداخلي وعلى وشك ان تعصف بي..مساء الأثنين,مساء ذالك اليوم,كان الجنون يسكن الرياح في الخارج فأصر انطوان عليّ بالخروج الى مرفأ صيدأ البحري.
خرجنا الى المرفأ و كانت من أجمل طقوسنا انا و انطوان في مثل هذه الأجواء هي الوقوف أمام البحر دون التفوه بأي كلمة. كان جنون البحر يُشعِلُ شغفنّا..و جبروت الريح يَزِيدُ حُبَنَا جبروتاً..فإذا هدأت الريح و توقف جنون الشتاء كانت لهفة الصياد في تفقده لشباكة كلهفة انطوان الى احتضان حُطامي.عندما تقف امام بحرٍ هائج وتُسلم نفسكَ  لعبثية الرياح فأطلق العنان لذاتك..اطلق عنان ألمكَ و حزنكَ ,عشقكَ و عتبكَ..هذا ماعلمني ايّاه انطوان..
يومها كنت أتهاوى امام البحر رغم وقوفي على قدماي..أنطوان يعلمُ بثقلِ اكتافي و بجبروت دمعي في أنٍ معاً..كان يراهن على جبروت الريح في اقتلاعي يوماً ما من تربة التكابر على قسوة الأيام كما كان يقول..انهرت باكيةً في احضانه, كنت اعاتبة باكية لأنه سلمني لريح لأنهار..كنت أكره ان انهار..و مازلت..أعتدت على صلابةِ و لا أحب خوف الجميع عليّ..لا أحتمل خوف انطوان..ومازلت استمع لهمساته القلقة علي..انا أضعف من ان استفز دمعتكِ او ابعثركِ فأسلمكِ لريح و للبحر هكذا كان جواب انطوان الدائم..
على ذالك المرفأ و دعت جرحاً ضجّ صداه بداخلي..ضُعفاً ماعشت يومي هذا لو ظل بأجزائي مستكنٌ..قال لي انطوان ان الأمواج لم تهدأ سوى عندما حَمَلت حُزني الذي كان بداخلي..حينها لمعت عينيّ انطوان و حاول ان يُخبئها عني..قوة انطوان كانت تمنحني قوة و ضعفه ايضاً كان يمنحني حناناً اشعر معه بقوةٍ أخرى..يومها عُدنا الى البيت و لم اتحدث بحرف لجدتي التي كانت ايضاً قلقة عليّ لانها كانت تظن انني عدت منهارة لأن ثمة سوءٍ حدث معي في الجامعة. جدتي تصدق انني قوية و مازالت تظن انني صلبة..لم تعلم يومها اني كنت قادمة من موعدٍ مع الإنهيار كان  مؤجلاً منذ أربعة سنوات..
مازلت اذكر ان انطوان بقيَّ الى جانبي حتى افقت بعد ست ساعات. مازلت اسمع صوت تمتمات صلواته عليّ لأغفو..مازلت اشعر ببرودة أنامله على شعري..و بحرارة جبينه على جبيني و تلعثُمَهُ امام كل من يدخل الى الغرفة ليسأل ماذا حلّ بي و بأي حالٍ أصحبت..
في مساء اليوم التالي أخذني انطوان الى استديو أحد اصدقائنا..واذ بشاب يقف خلف الميكريفون و يُغني هذه الأغنية التي كنت اعشقها..لم أفهم ماذا يحدث و كان انطوان فضل,مار و جاد يُبَرروا الموضوع بأنه لإخراجي من أجواء الدرس..
و بعد اسبوعين كان الجميع من عائلتي و اصدقائي يلتفون حول قالب كعكٍ في إحتفال تخرجي..و بعد التبريكات و الصلوات..وقف انطوان بخجله المعتاد في المنتصف و طلب الترحيب بغبريال و الذي سيُحيي الحفل بصوته..كان هو ذالك الشاب الذي شاهدته منذ اسبوعين في الاستديو..و الذي اخرسَني للحظات هو تقدم انطوان اليّ حاملاً سي دي. عندما عُرِضَ السي دي شعرت بأن كل الحب, الجنون و الشغف يسكن عالمي..كان على هذه القرص مقطع فيديو يحملُ أجمل و أصعب اللحظات التي جمعتنا مصحوباً بصوت غابريال و هو يغني أغنية جروبان.. قد تحمل الدنيا أحياناً ماتعتقد انه يُدمركَ في حين تهبكَ من تثق هي بأنه سيُعمركَ..
عندما انتهى كل شي و غادر الجميع المكان توجهنا انا و انطوان,فضل,مار و جاد و بعض الأصدقاء كعادتنا الى القلعة البحرية في صيدا لجرد السنة بكل ألامها و افراحها,امالنا و أحلامنا..فجأة سكت فضل و هدأ كل شيء حولنا..نظر اليّ انطوان وقال..انا لكِ و لن اعيش لغيركِ فهل تكونين من أجلي..فكنت و كان كل شيء من أجله..حتى حياتي عندما غادَرَها كانت له و ستظل من اجله..وان حاولت البداية من جديد كما أردت لي هذا و انت تُودِع الدنيا بين ذراعيّ فالهروب من لحظة البداية كان خياري الوحيد..فعذرني
انطوان..اشتاق اليكَ..اشتاق لأن تحتضنَني من تعبي..من قسوة الأشياء معي..من سؤالات الأشخاص عنك..من جنون الذاكرة بعدك..من خوفي و ضياعي..من تشتت ملامحك بين ملامح الواقفين هنا..من وجعي.. الكل يقسو على من لم تقسو عليها يوماً..خذني اليكَ فأنا أعلم انكَ لن تعودَ اليّ حيث انتَ الأن..