خسرت أنطوان.. خسرت الحياة
الإنسان في
الحياة مجرد سفينة، كل ماحوله من اشخاص، احداث و اقدار يمثلون الحياة. كل
اولئك يُمثل امواجاً تحرك تلك السفينة حيث اشاء لها الرب ان ترسو. بعض
الأمواج صاخب و بعضاً منها كنسمة الهواء بينما تبقى تلك الأمواج التي لا
تريد الا ان تحتضنك تبقى هي الأمواج الأهم. ليس المهم ان تمضي قِدماً في
الحياة، الأهم ان تعيش كل تفاصيل المراحل التي تقف عندها.
عندما
التفت الى مامضى من حياتي اجد ان ثمة امواج حركتني، لا تستوقفني تلك
العاتية فحنية تلك الأمواج التي انتشلتني انستني قسوة مثيلاتها. لا احد
يُنكر ان هناك الأهم و المهم و العابر في الحياة. بالنسبة لي فكل هذا مرَّ
في حياتي. قد يكون العام 2005 هو الأهم بالنسبة لي.
في
ذالك العام عشت لبنان بكل تفاصيله. لا احد ينسى ذالك العام. كان انطوان
يسميه عام" حياة على انقاض اغتيلات". شهد ذالك العام اغتيال الشهيد رفيق
الحريري. شهد ذالك العام اكبر مظاهرة جابت شوارع بيروت. شهد ذالك العام
حصاد عملنا الطلابي الذي بدأ منذ جيل انطوان في 1990و استمر حتى جيلي، شهد
ثورة الأرز. شهد غياب جبران، سمير و بيار.
في يناير من ذالك العام تخرجت من الجامعة. و في فبراير من ذالك العام، اي بعد شهر فقط، بدأت الإغتيالات بخطف رفيق الحريري.
في
حفلة تخرجي صارحني انطوان بحقيقة مشاعره تجاهي. طيلة حياتي كنت اتعامل مع
انطوان من منطلق الصداقة و القرابة. كنا صديقين فكما كانت تقول جدتي:" اذا
ضيعت انطوان نبش ع شوق و العكس". كنا ظل و ظليل. لكن لم اشعر للأمانة
بعاطفة الحب تجاه انطوان سوى بعد دخولي الى الجامعة و تحديداً بعد عامي
الثاني. فبعد ان اصيب انطوان بطلق ناري في 2003 من مصدر مجهول ادركت اني
بالفعل اعشق ذالك الرجل. لم اشعر بالخوف من الحياة قبل ذالك الموقف. يومها
شعرت ان انطوان قد يغيب عن حياتي. يومها تبرعت انا و سام بالدم لأنطوان
فبقي مار يردد:" هلا هن اخوه لألك بالدم بس انا بيطلع لي اتجوزك". كان
يقولها لإغاضة انطوان الذي كان يردد:" اذا صبغت الشيبات بركي بتفكر فيك".
يرد مار:" شوق بتعشق الشيبات ماهيك؟". فكنت ارد:" اكيد بحبون بس وقت
يكونوا شيبات اخي انطوان". كنت المح لمعة في عينيّ انطوان لم اراها من
قبل. انطوان مختلف حتى في صمته كان مختلف. لا ابالغ ان قلت ان انطوان
يعرفني اكثر مني. كان يحتمل جنوني، ثورات غضبي و تعصيبي الذي دائماً كان
يقف امامها صامتاً و ماان اعود الى صوابي يمسك بأطراف اصابع يدي فيشدني
الى جواره و يغمرني و هو يقول:" لك روقي و الله الدني بتناكفك لانو بتحب
جنانك، اتغنجي عليه نتفه و ماتنوليه الي بباله.. بس بتعرفي انتي بتجنني بس
تجني".
كان انطوان مصدر اعجابي بكل
انكساراتي، بعثراتي، عيوبي و اخطائي. كان يصنع من كل عيب فيّ ميزة يظل
يردد معها؛" لو ماهيك ماكنت حبيتك". ببساطة انا احبت انطوان لكن مازلت
اقول بأنه احبني اضعاف مااحببته.
بعد
تلك الحادثة بدأت جدتي تردد:" ماتجوا نجوزكون و نخلص منكون". كان انطوان
يتواري خلف ابتسامة الخجولة فيقول:" شو بده ياستي بحدا ختيار اكبر منه
بسبع و تمان سنين؟". فكنت اغمر جدتي فأقول لها:" انا بدي اتجوز شب بعدو
بأول شبابو مو متل انطوان". كانت جدتي تبتسم فتقول:" ماترد عليه ياابني
بكرا بنشوف و اذا مابده بنجوزك اخت فرح مش شوق بتقول انو الصبيه مغرومه
فيك". كانت جدتي تحاول استثارت غيرتي. مرت الأيام و بدأت علاقتي بأنطوان
تنضج اكثر. و بسبب عمل انطوان في بيروت اضطر لشراء بيت هناك ليسهل عليه
العمل. في فترة الإختبارات الجامعية كنت ابقى مع انطوان في بيته في بيروت
و كانت خالتي جيزيل تأتي لزيارتنا بين وقت و اخر. ذات مرة، في ٢٠٠٤، طلبت
جدتي مني و من انطوان ان نتحدث لوحدنا. جلسنا في غرفة جدتي و سألت:" انتوا
شو قصتكون، ع شو ناوين؟" فبتسم انطوان و قال:" الي بده شوق". فقالت جدتي:"
يعني شو؟ انت شو بدك". صمتنا انا و انطوان. فواصلت جدتي وقالت:" شوق بقيان
سنة و تخلص جامعة و انا مابسمح لحدا يحكي كلمة بحقة. الصبية كبرت و ماحلو
حدا يحكي بحقه كلمة عاطله. انت بتفهم شو بقصد؟". رد انطوان على عجل:" شوق
بنخطب هلا و نتجوز بعد الجامعة؟" تدخلت جدتي:" مابحكي هيك تتخطبوا. انا
ماخصي بالعالم اذا اطمنت ع نيتكون. اذا عن جد ناوين هيك فماراح نحكي بشي
تتخلص شوق جامعة". اتفقنا يومها على ان يختبئ سِرنا في كنف جدتي. و فعلاً
تخرجت من الجامعة و بعد حفلة تخرجي التي اقامها لي انطوان و رفاقه قال لي
انطوان:" انت لي فهل تكونين لي؟" فكنت.
كان
تخرجي في يناير و كان الإتفاق ان نُعلن خطوبتنا بعد شهر الا ان لبنان
كما هو اليوم رهن التحولات! فقد اُغتيل الرفيق الشهيد رفيق الحريري و
وجدنا انفسنا رهن الوطن مابين اعتصامات و مظاهرات من اجل الوطن الذي كنا
نؤمن انه لابد ان يعود لصوابه كي نستطيع العيش. بينما نحنوا معتصمون في
الساحة كان المعتصمون يقضون الليل بالحديث عن وضع البلد و لخبطة الظروف
فينتهي الحديث عند احدهم و الذي يتحدث عن فقدانه لعمله بسبب اغلاق الشركة
التي يعمل بها ليفقد وظيفته فيُأخر ارتباطه بمن احب و التي نجدها تجلس الى
جواره في المظاهرة! و ذات مرة و نحنوا في الساحة نزل جبران الى المعتصمون
كالعادة و بدأ بالحديث مع المعتصمون و عندما اقترب منّا تقدمت بتجاهه و
اخبرته بحماس عن الإعتصام و عن معنويات الشباب. سحب جبران الكرسي فجلس
معنا و بدأ يستمع لشباب. كانت ابتسامته تعد بغدٍ افضل. قال احد
المتواجدون:" بوعدك يااستاذ بس يجيني صبي راح سميه جبران" فرد الثاني:"
انا كمان هي زوجتي و حامل بالشهر الثالث و اذا اجاني صبي راح سميه جبران"
فصار الجميع يهتف بإسم جبران. رغم اختلاف الطوائف و الأحزاب الا ان كل
الشباب كانوا متعطشين لجبران. و بينما جبران كان يودع الجميع نظر اليّ
فقال:" وانتي شو مابدك تحني ع هالختيار و تتجوزوا". ابتسم انطوان فقال
لجبران:" قله بركي بتسمع منك". رد جبران و قال:" اتجوزوا حاجتكون مكابره
العيون بتجرس". فصفق الأصدقاء و راحوا يهتفون بأسمائنا. اقترب سام فخلع
محبس كان يضعه في يده و قال:" تماتقولوا انو مانقطتكون بجوازتكون". جلس
انطوان على ركبتيه و قال:" تتجوزيني؟". كان ضرباً من الجنون، كان همساً من
الطفولة. في الصباح و بعد التجول بين المعتصمين هاتفنا جدتي و اخبرناها
بما حصل فأصرت على النزول الى بيروت. بالفعل عادت جدتي لصفوف المعتصمين
بعد ان احضرت محبسين فأعلنت خطبت انطوان على شوق.
في
اب،و بعد اغتيال بيار بشهرين تقريباً، كان انطوان في وضع نفسي صعب جداً.
كان متعلقاً جداً ببيار. اقتربنا اكثر من بعضنا و كنا نقضي كل الوقت
تقريباً معاً. وذات مرة كنا نجلس انا و انطوان بالقرب من فندق السفير
قديماً نظر الي انطوان فقال:" تتجوزيني؟". و فعلاً اخبرنا جدتي بالأمر و
اتفقنا على ان الزواج سيكون مدني و كلاً سيبقى على دينه، لم نطل الحديث في
الأنر ربما لان الأمر محسوم او لربما اننا ألفنا دين بعضنا فحترمناه.
في
٥ اكتوبر من العام 2005 توجهنا ككل اللبنانيون الى قبرص و تزوجنا. يومها
ادركت ان السكنى على القمر ليس مستحيلاً و ان بلوغ النشوة في كل شيء ليس
صعباً. عشنا انا و انطوان اسعد ايامنا. لم يتغير شيء سوا اننا اصبحنا نعرف
عن بعضنا بزوجي و زوجتي. بعد اسلوع من زواجنا جاء سام و مار لزيارتنا و
كانوا يرددوا:" انتبه ماتزعله لانو اله اخوه شباب زعران واحد اسمو مار و
التاني سام". كان سام يستفز انطوان فيقول لي:" اذا حبيتي تسهري خبريني بجي
باخدك لانو اكيد الختيار انطوان راح يغفى بكير". ببساطة كنت اسعد شخص في
الحياة و هذا اقل توصيف.
مضت الأيام لنخسر جبران بعد شهرين من زواجنا. انكسرنا في حينها فلم يجبرنا سوى احضاننا. لا انسى كيف بكى انطوان عندما بُلغنا بالخبر.
سارت
الأيام دون ان تعلم انها كانت تخطو خطواتها نحو الهلاك. فبعد سبعة اشهر
أفاقت لبنان على خبر اختطاف الجنديين الإسرائليين فقامت حرب تموز 2006. كل
شيء في لبنام يسير ببطء، الكهرباء، التنمية، الحياة، الإقتصاد، إلتأم
الجراح و النسيان الا الحرب فالسرعة ديدنها و المباغتة سلوكها!
اشتعلت
بيروت و لم تنطفى حتى اليوم رغم كل اكاذيب الساسة هنا. كان انطوان ينزل
الى الشارع كل يوم ليتفقد الدمار. كنت ارافقه في كل مرة. الا انه في ذالك
اليوم اتصل به شخص من بيروت و اخبر انطوان بأنه يريد ان يلتقيه لضرورة. لم
يكن انطوان يعرف المتصل الا ان المتصل ظل يردد على انطوان ان ثمة امرٍ مهم
يريد ابلاغه فيه. خرج انطوان من بيت جدتي في صيدا حيث كنا نجتمع و توجه
الى بيروت. عند وصوله الى بيروت تحدث معي و اخبرني بذالك فطلبت منه ان
يبقى على تواصل معي. و بالفعل بعد ساعة وجدته يهاتفني و يقول:" رحت ع
المطرح و نزلت صوب البحر مطرح مااتنفقنا نلتقي بس مالقيت حدا و هلا انا
بطريقي لسيارة تأرجع لعندك". بقيت في انتظار انطوان لساعتين الا انه لم
يصل. هاتفته فلم يُجيب. بدأت الأفكار المؤلمة تهز ثباتي. اتصلت بسام و مار
و الجميع الا ان الكل لا يعرف اية جديد. مرت خمس ساعات دون اخبار. و عند
الساعة الثامنة مساء اتصل احدهم على هاتفي ليقول:" انطوان صار معو حادث و
هو بالمشفى". وصلنا فمنع الحكيم دخول اخدنا لسوء حالة انطوان. كانت جدتي
تصلي و خالتي جيزيل لا تقدر على الوقوف. كان مار و سام ة فضل و الجميع
يترقبون. اما اما فلا حراك. اقترب احد المسعفون الذين قاموا بنقل انطوان
الى المستشفى فأخبر مار ان انطوان فقد السيطرة على السيارة و كان يحاول
ايقاف السيارة الا ان كوابح السيارة تعطلت فجأة فصطدم بأحد الأرصفة. كان
الشاب يحاول ان يقول امراً ما. كان يحاول ان يقول ان ثمة شاب كان هنا قبل
وصولنا و سمعه بتحدث الى احدهم على الهاتف و يقول:" العمى الشاب مامات".
هذا أكده لي فيما بعد الكشف الجنائي الذي اثبت ان احدا ما قام بإتلاف
كوابح السيارة و تفريغها تماماً من الزيت! في وقتها لم اُعر اهتماماً لكل
مايدار حوالي. لم أكن انتظر سوى خروج الحكيم.
بعد
ساعتان خرج الحكيم فقال:" وضعوا سيء لكنه بيصر انو يحكي معك. جربي
ماتكتروا حكي". اقتربت من انطوان في حينها و حاولت قدر الإمكان ان اتماسك
لكن مارأيته كان صعب. ادركت اني فقدت انطوان لا محالة. حاول ان يتحدث لكنه
لم يستطع. كنت بالكاد احاول فهمه. كان يردد:" ديري بالك ع حالك"، " راح ظل
ارعاكِ"، " راح ظل حبك". حاول مراراً ان يبتسم ليشعرني بالطمأنية الا انه
لم يستطع. اغمض عينه فضننت انه قد غاب الا ان الممرضة دخلت و بدأت بمحاولة
انعاش قلبه لمرتين. اخذوني الى الخارج. التف الجميع حولي الا اني كنت جسدا
فقد روحه داخل تلك الغرفة، حيث يرقد انطوان. ساعة مضت و بعدها خرج الحكيم
فقال ببساطة:" ماقدرنا نعمول شي، شدوا حالكون". انهار الجميع فحاول مار و
سام يومها ابعادي عن الممر لكن لم استطع حتى الحراك. انتهى كل شيء. او ان
صح كما لو اني لم اعد في الحياة.
احياناً
كثيرة خسارتك قد تُعوضها بطريقة ما الا ان خسارتي لشخص كأنطوان تعني خسارت
كل شيء. كنت اختصر الحياة في انطوان، خسرت انطوان فخسرت الحياة. توقفت
حياتي حيث توقف قلب انطوان عن النبض. كان انكساري بعد انطوان كإنكسار
الرمال بعد الرياح العاتية فبعثرت الرمال لايمكن ترتيبه. و رغم محاولات
الجميع من حولي لإنتشالي الا اني كنت حطام في قاع محيط. كان فَقد انطوان
الشعرة التي قصمتني. إلتف حولي عائلتي، جدتي و خالتي جيزيل، مار الذي ترك
كل شيء و بقى لجواري، سام الذي نسف كل التزاماته من اجلي و فضل الذي سخر
وقته و عائلته لمساندتي. ربما انا من اولئك الذين لا يحبون خوف الجميع
عليهم. لا احب ان اكون حملاً على احد او لا احب ان اثقل احداً بتعبي خاصة
عندما اعلم اني غير قادرة على مقاومة انكساراتي.
حاولت
التماثل لشفاء لكن شوارع بيروت و ممرات صيدا، ازقة الجميزة التي جمعتنا و
شرف بيوت الأشرفية التي احتضنت احدها قهوتنا كل صباح، شاطئ كورنيش المزرعة
الذي قبّل خُطانا مطلع كل يوم كانت موطن جاذبيتي للوقوع في اليأس و التعثر
في شباك الذكريات. كان من الصعب عليّ ان اهرب من اجمل ذكرياتي، من كل
حياتي!
وجدت نفسي بعد ثمانية اشهر اقف امام سام و مار و اتوسل اليهم ان يساعداني على الإبتعاد عن بيروت.
و
بالفعل وقف بجواري اصدقائي فقتنعت جدتي بالأمر. سعى مار لتوفير عقد عمل لي
لدى شركة سياحية تعمل في السياحة و التجارة. فنتقلت الى مصر كمحطة اولى.
غادرت
بيروت في ١٨ نيسان مطلع 2007 بعد ان رأيت لأول مرة دمعة في عين مار لم
اراها من قبل فكم انا اعشقك يامار. و يالحنية احتضان سام الذي لن انساها
ماحييت فكم انا احبكَ ياسام.
انتهت الحياة التي عرفتها و عشتها و بدأت حياة اضطررت ان اتعرف عليها لأعيشها..
لكني مدينة لأشخاص إنتشلوا حطامي بقصد و دون قصد.. و لربما صديقي ذو الشجن "عاشق برمانا" و الذي لا يكف عن إستفزازي هذه الأيام بتذكيري بالقهوة و يعدني برحلة الى إيطاليا أعترف كم أنا مدينة اليك ياصديقي..
لكني مدينة لأشخاص إنتشلوا حطامي بقصد و دون قصد.. و لربما صديقي ذو الشجن "عاشق برمانا" و الذي لا يكف عن إستفزازي هذه الأيام بتذكيري بالقهوة و يعدني برحلة الى إيطاليا أعترف كم أنا مدينة اليك ياصديقي..
سأقف هنا لأعود من جديد ان كتب لي القدر فسحة من البوح..