حرب الذكريات..
الأجواء في بيروت حالمة اليوم, الضباب يعتنق رأس بيروت كما أخبرنا صديقي سام حينما هاتفني أنا و مار اليوم من بيروت, وصديقي هيثم أيضاً اخبرني بذالك قبل قليل. هاهو مار يقف أمام النافذة يُجري إتصالاته, يبدو أن مار سيبقى معي ليومين أيضاً, دائماً أفشل في إخفاء شوقي لبيروت أمام مار, فالبيروت " من قلبي سلاماً".
سمعت بيروت في حكايات لقاءات جدّي مروان و جدتي جميلة, في حكاياتِ صمودهما, حبِهما و هذيانِهما. أسمعتني خالتي جيزيل حبها لبيروت و يبوح لي انطوان بشيء من مايخبئه في ذاكرته عن بيروت و أيام الحرب. إلا أن لقائي ببيروت لم يكن سوى بعد إنتهاء الحرب الأهلية في أواخر العام 1990 و السيطرة السورية على لبنان.
في ثاني ايام عيد الفطر, في تشرين الأول من العام 1991,بينما كنت في السابعة من العمر, قال جدّي مروان بأنه إستأجر سيارة أجرة لأخذنا غداً في زيارة الى بيروت, وقبل أن يُتم كلمته كان الجميع قد همَّ بتحضير كل شيء. في المساء لم يتمكن أنطوان من النوم و السبب أني بين الحين و الأخر, كما يقول, كنت أتحدث بصوت مرتفع عن بيروت رغم أني كنت أغط في سبات عميق. في الصباح أذكر أني لحقت بأنطوان في كل أرجاء البيت لأقتص منه بين ضحكات الجميع. كنت أريد مقاصصته لأنه حملني فجأة من السرير و جرى بي بسرعة وهو يقول أقلعت طائرة بيروت, فستيقظت فزعةً من ماحدث فجأة.
في الطريق الى بيروت كان كل شيء يمرّ سريعاً سوى نظرات جدّي لجدتي, كانت كأنها بطول عمريهما. كان حنين خالتي لزوجها رامي يُخرسها بينما سارا كانت تحاول أن تختلس اللحظات لتطل برأسها من النافذة. أنطوان كان يَشُدُ على يدّي فجأة ليعود فيحررني, كان يسابق والدته في شوقه الى والده.
عند مدخل بيروت إنتهت كل التكهنات لديَّ. كان الدمار قد وَسمَ كل الزوايا, لم تكن الطرقات بأحسن حال من البنايات. كانت مدينة مزدحمة بكل شيء, بالذكريات, الشهداء, الصلوات, صور الزعامات و بالجراح. ترى أرواح المهاجرون في ملامح الباقون, تسمع الأحقاد في إبتسامات الناجون.
أختنق صوت جدّي وهو يَطلب من " الشوفير" بأن يأخذنا الى حيث كان و كانت حياته, الى كنيسة مار مخايل. وصلنا الى أول حي ماضي أو مايعرفه اللبنانيون "بمار سمعان". لم يتمكن " الشوفير" من الدخول بسيارته نظراً لكم الدمار الذي أغلق مداخل الشارع الرئيسي و لكثرة الحواجز الأمنية التي كانت متشحة بااللون الأصفر في حينها!
نزلنا سيراً على أقدام الذكريات, أذكر جيداً صوت بكاء جدّي فوق ذراعات جدتي حينما وقفنا أمام أحد البنايات التي تساوت بالأرض تماماً. كانت البناية التي إختزلت كل طفولته و شبابة. مازلت أذكر كيف أن الأبنية تدمرت بالكامل بينما كان تمثال مريم العذراء واقفاً حيث كان. بدأنا نمشي بين الممرات الضيقة حتى وصلنا الى بوابة الكنيسة التي هي أيضاً لم تسلم من أثار الرصاص. بدأت أصوات أجراس الكنيسة تدق على إستحياء. فدخل جدّي و خالتي جيزيل و أنطوان لصلاة بينما بقيت أنا و جدتي و سارا في الخارج. اخبرتني جدتي حينها أننا نقف على الخط الأخضر أو مايعرف بالخط الفاصل الذي قسم بيروت في أيام الحرب الى شرق مسيحي و غرب سني, وفي كل مرة كانت تُعيد عليَّ نفس الجملة" لو أتوحدوا ماتقاتلوا", ماأعمق تبسيطك للامور ياروح عمري.
بعدها أخذنا نتجول في حي ماضي الذي بالفعل حتى اليوم يبدو أنه لا يستطيع الخروج من لعبة الماضي, فكيف يخرج وقد أضحى العوني حامي حماه!.
في أخر زيارة لي لبيروت,منذ أقل من شهر, زرت أنا وصديقي مار حي ماضي, كان يعمل على ملف للأنبية التراثية, أذكر أننا شعرنا أن كل مافي لبنان قد سُرق خصوصاً و نحن نُشاهد كيف ان أعلام حزب الله قد أمتدت على كل الأنبية المجاورة لكنيسة مار مخايل فإذا بدأ سور الكنيسة توقف مَد الأعلام لتعود من جديد بمجرد أن ينتهي سور الكنيسة!.
لا أريد أن أتذكر ذالك المشهد, الوجود الشيعي في لبنان يؤرقني كثيراً, و نظرات مار الي الأن تُشعرني أنه بدأ يشعر أني بدأت أكتب في المحظور عليَّ هذه الأيام بسبب وضعي الصحي. لكن قبل أن أقفل هذا السطر لدي جملتين, الأولى لماذا لا يمرض الساسة اللبنانيون كما يمرض الشعب اللبناني؟ و الثانية بأن اللون الأصفر إذا دُمجَ مع اللون البرتقالي ليس شرطاً ان يعطي لوناً أحمر, بل الإحتمالات اللبنانية الموثوقة تقول بأن دمج هذان اللونين ضمن إيديولوجية لبنانية تعطي اللون الأسود!!
المهم, خرجنا يومها من مار مخايل و توجهنا الى الضاحية الجنوبية باعتبار انها أكثر المناطق التي رزحت تحت القصف, أذكر أننا مررنا بحي الأكراد هناك في الرملة و أيضاً هناك أنتشرت الأعلام الصفراء. كان وضع برج البراجنة كله مُمريب. أذكر أن جدّي كان يبتسم ويقول هذا لبناني, هذا فلسطيني و هذا كردي فمتى تنفجر؟
بالفعل وضع الأكراد في لبنان سيء جداً, أظن أنه من الحكمة, كل الحكمة, هو إعادة أحياء بادرة رفيق الحريري التي قام بها في العام 1994. أعلم أن عدم تحديد مكان الولادة بالنسبة للأكراد, عند إخراج بطاقات ثبوتية لهم و منحهم الجنسية اللبنانية, يعتبره الأكراد أمراً معيباً لهم لكن يبقى أمر تجنيسهم أمراً ضرورياً كقوة سنية قد تُغير اللعبة السياسية خصوصاً في الضاحية, حكمة رفيق الحريري لا يُستهان بها!
مازلت أشعر بالخجل حتى اليوم أمام ذالك السور الكبير, أو الحصن, الذي يمتد أمام برج البراجنة, تلك الأبنية الكبيرة. ذالك الحصن لا يحمي حي الأكراد بقدر مايحاول إخفاء هذا الحي خلفه, لم يُصدق أحد الأصدقاء من أحد الدول العربية و الذي جاء لزيارة بيروت قبل عام بما رأه خلف هذا السور, قال لي" هناك حياة أخرى", و هو كذالك.
لأقف هنا.. فساعة مار تقول بأني جاوزت الوقت المسموح في الجلوس أمام شاشة جهازي..
سأعود غداً لو كان لي من القدر فسحة بوح...
تصبحون كيف ماتمنيتم..
الأجواء في بيروت حالمة اليوم, الضباب يعتنق رأس بيروت كما أخبرنا صديقي سام حينما هاتفني أنا و مار اليوم من بيروت, وصديقي هيثم أيضاً اخبرني بذالك قبل قليل. هاهو مار يقف أمام النافذة يُجري إتصالاته, يبدو أن مار سيبقى معي ليومين أيضاً, دائماً أفشل في إخفاء شوقي لبيروت أمام مار, فالبيروت " من قلبي سلاماً".
سمعت بيروت في حكايات لقاءات جدّي مروان و جدتي جميلة, في حكاياتِ صمودهما, حبِهما و هذيانِهما. أسمعتني خالتي جيزيل حبها لبيروت و يبوح لي انطوان بشيء من مايخبئه في ذاكرته عن بيروت و أيام الحرب. إلا أن لقائي ببيروت لم يكن سوى بعد إنتهاء الحرب الأهلية في أواخر العام 1990 و السيطرة السورية على لبنان.
في ثاني ايام عيد الفطر, في تشرين الأول من العام 1991,بينما كنت في السابعة من العمر, قال جدّي مروان بأنه إستأجر سيارة أجرة لأخذنا غداً في زيارة الى بيروت, وقبل أن يُتم كلمته كان الجميع قد همَّ بتحضير كل شيء. في المساء لم يتمكن أنطوان من النوم و السبب أني بين الحين و الأخر, كما يقول, كنت أتحدث بصوت مرتفع عن بيروت رغم أني كنت أغط في سبات عميق. في الصباح أذكر أني لحقت بأنطوان في كل أرجاء البيت لأقتص منه بين ضحكات الجميع. كنت أريد مقاصصته لأنه حملني فجأة من السرير و جرى بي بسرعة وهو يقول أقلعت طائرة بيروت, فستيقظت فزعةً من ماحدث فجأة.
في الطريق الى بيروت كان كل شيء يمرّ سريعاً سوى نظرات جدّي لجدتي, كانت كأنها بطول عمريهما. كان حنين خالتي لزوجها رامي يُخرسها بينما سارا كانت تحاول أن تختلس اللحظات لتطل برأسها من النافذة. أنطوان كان يَشُدُ على يدّي فجأة ليعود فيحررني, كان يسابق والدته في شوقه الى والده.
عند مدخل بيروت إنتهت كل التكهنات لديَّ. كان الدمار قد وَسمَ كل الزوايا, لم تكن الطرقات بأحسن حال من البنايات. كانت مدينة مزدحمة بكل شيء, بالذكريات, الشهداء, الصلوات, صور الزعامات و بالجراح. ترى أرواح المهاجرون في ملامح الباقون, تسمع الأحقاد في إبتسامات الناجون.
أختنق صوت جدّي وهو يَطلب من " الشوفير" بأن يأخذنا الى حيث كان و كانت حياته, الى كنيسة مار مخايل. وصلنا الى أول حي ماضي أو مايعرفه اللبنانيون "بمار سمعان". لم يتمكن " الشوفير" من الدخول بسيارته نظراً لكم الدمار الذي أغلق مداخل الشارع الرئيسي و لكثرة الحواجز الأمنية التي كانت متشحة بااللون الأصفر في حينها!
نزلنا سيراً على أقدام الذكريات, أذكر جيداً صوت بكاء جدّي فوق ذراعات جدتي حينما وقفنا أمام أحد البنايات التي تساوت بالأرض تماماً. كانت البناية التي إختزلت كل طفولته و شبابة. مازلت أذكر كيف أن الأبنية تدمرت بالكامل بينما كان تمثال مريم العذراء واقفاً حيث كان. بدأنا نمشي بين الممرات الضيقة حتى وصلنا الى بوابة الكنيسة التي هي أيضاً لم تسلم من أثار الرصاص. بدأت أصوات أجراس الكنيسة تدق على إستحياء. فدخل جدّي و خالتي جيزيل و أنطوان لصلاة بينما بقيت أنا و جدتي و سارا في الخارج. اخبرتني جدتي حينها أننا نقف على الخط الأخضر أو مايعرف بالخط الفاصل الذي قسم بيروت في أيام الحرب الى شرق مسيحي و غرب سني, وفي كل مرة كانت تُعيد عليَّ نفس الجملة" لو أتوحدوا ماتقاتلوا", ماأعمق تبسيطك للامور ياروح عمري.
بعدها أخذنا نتجول في حي ماضي الذي بالفعل حتى اليوم يبدو أنه لا يستطيع الخروج من لعبة الماضي, فكيف يخرج وقد أضحى العوني حامي حماه!.
في أخر زيارة لي لبيروت,منذ أقل من شهر, زرت أنا وصديقي مار حي ماضي, كان يعمل على ملف للأنبية التراثية, أذكر أننا شعرنا أن كل مافي لبنان قد سُرق خصوصاً و نحن نُشاهد كيف ان أعلام حزب الله قد أمتدت على كل الأنبية المجاورة لكنيسة مار مخايل فإذا بدأ سور الكنيسة توقف مَد الأعلام لتعود من جديد بمجرد أن ينتهي سور الكنيسة!.
لا أريد أن أتذكر ذالك المشهد, الوجود الشيعي في لبنان يؤرقني كثيراً, و نظرات مار الي الأن تُشعرني أنه بدأ يشعر أني بدأت أكتب في المحظور عليَّ هذه الأيام بسبب وضعي الصحي. لكن قبل أن أقفل هذا السطر لدي جملتين, الأولى لماذا لا يمرض الساسة اللبنانيون كما يمرض الشعب اللبناني؟ و الثانية بأن اللون الأصفر إذا دُمجَ مع اللون البرتقالي ليس شرطاً ان يعطي لوناً أحمر, بل الإحتمالات اللبنانية الموثوقة تقول بأن دمج هذان اللونين ضمن إيديولوجية لبنانية تعطي اللون الأسود!!
المهم, خرجنا يومها من مار مخايل و توجهنا الى الضاحية الجنوبية باعتبار انها أكثر المناطق التي رزحت تحت القصف, أذكر أننا مررنا بحي الأكراد هناك في الرملة و أيضاً هناك أنتشرت الأعلام الصفراء. كان وضع برج البراجنة كله مُمريب. أذكر أن جدّي كان يبتسم ويقول هذا لبناني, هذا فلسطيني و هذا كردي فمتى تنفجر؟
بالفعل وضع الأكراد في لبنان سيء جداً, أظن أنه من الحكمة, كل الحكمة, هو إعادة أحياء بادرة رفيق الحريري التي قام بها في العام 1994. أعلم أن عدم تحديد مكان الولادة بالنسبة للأكراد, عند إخراج بطاقات ثبوتية لهم و منحهم الجنسية اللبنانية, يعتبره الأكراد أمراً معيباً لهم لكن يبقى أمر تجنيسهم أمراً ضرورياً كقوة سنية قد تُغير اللعبة السياسية خصوصاً في الضاحية, حكمة رفيق الحريري لا يُستهان بها!
مازلت أشعر بالخجل حتى اليوم أمام ذالك السور الكبير, أو الحصن, الذي يمتد أمام برج البراجنة, تلك الأبنية الكبيرة. ذالك الحصن لا يحمي حي الأكراد بقدر مايحاول إخفاء هذا الحي خلفه, لم يُصدق أحد الأصدقاء من أحد الدول العربية و الذي جاء لزيارة بيروت قبل عام بما رأه خلف هذا السور, قال لي" هناك حياة أخرى", و هو كذالك.
لأقف هنا.. فساعة مار تقول بأني جاوزت الوقت المسموح في الجلوس أمام شاشة جهازي..
سأعود غداً لو كان لي من القدر فسحة بوح...
تصبحون كيف ماتمنيتم..