عودة الغرباء..
فتحتُ
عينيَّ هذا الصباح على مار متمدد على الأريكة المقابلة لسريري، شعرت بتأنيب
الضمير. أذكر اني غفوة البارحة و انا اتوسل اليه بأن يغادر الى الفندق لأنه
لن يستطيع النوم في المستشفى، يبدو ان إلحاح المنوم الذي اعطتني اياه
الممرضة في وقتها كان اقوى من إلحاحي على مار. وككل الصباحات، دخلت
جوليانا الى الغرفة فستيقظ مار واشرقت الشمس.
"اذا
بدك تكتبي بتاكلي كل الترويقه" كان هذا هو شرط مار. هاأنا افتح جهازي و
مار كذالك، هو يتفحص ايميلات عمله و انا اتفحص جودة ذاكرتي.
اعود
الى زيارتي الأولى لبيروت، فبعد مار مخايل و برج البراجنه توجهنا الى
الواجهة البحرية قبالة البحر. وصلنا الى هناك فكانت مواج الدمار اقوى من أمواج البحر. أختفت المقاهي، غاب صوت النرد، تبخرت روائح الأرجيلة، تكثفت
رائحة القهوة و جفت أوراق كتب المثقفون. اخذت الأمواج كل ذكريات جدي التي
لطالما اغمضنا اعيننا على همساته في كل مساء. اخذ جدي، جدتي و خالتي جيزيل
مكانهم على احد الصخور على طرف البحر بينما راحت سارا تسابق الأمواج فاصطحبني انطوان الى بائع طائرات الورق ليشترى لي واحدة منها. راحت طائرتي
الورقية تسابق امواج البحر و جدي و جدتي يتسابقون بعضهم البعض في البوح عن تلك
اللقاءات الجميلة التي كانا يعمرانها هنا على اطراف البحر. بعدها بدأ الصيادون
في العودة الى الشاطئ فغادرنا المكان الى احد المطاعم البحرية التي تكتفي
فقط بعمل السمك المشوي و الحمص البيروتي، كان المطعم بجوار كازينو بيروت
الأن، اعتقد ان اسمه كان شط بيروت ان لم تخنِّ الذاكرة.
اذكر اننا في يومها اصطحبنا جدي الى حرج بيروت. حرج بيروت اقفلت وقت الحرب لتعاود البلدية فتحها بمجرد وقوف طبول الحرب.
و
بمجرد ان لمحت "زنزوقة العيد" ، المراجيح، هناك في الجوار تحركت الطفولة بداخلي بكل جموح. و
ماان بدأت الشمس بالذبول اخذنا اول سيارة اجرة مرت امامنا و غادرنا
بيروت. في طريق عودتنا لا اذكر اي شيء لأن التعب اخذ نصيبه مني. و في حضنِ
جدتي غفوة.
عندما وصلنا
الى البناية وجدنا سيارة سوداء اللون تقف امام البناية بينما سام كان يجلس
تحت شجرة الليمون المقابلة لبنايتنا. سام ترجل بسرعة بتجاة انطوان و قال
له:" خلينا نروح حد القلعة هلا" فرد انطوان بأنه متعب من الطريق و بأني
انا ايضاً متعبة. اصر سام على انطوان و فجأة ارتفع صوت سام و حملني من بين
يدي انطوان و قال:" تعي معي هلا لعند القلعة"!. لم يفهم احد سبب إلحاح
سام. و فجأة خرجت مرأة من البناية و قالت بصوت عالي:" اخيراً رجعتوا". صمت
الجميع فشدني سام من يدي و لحق بنا انطوان و توجهنا الى القلعة البحرية
قبالة البحر.
القلعة البحرية ماهي إلا
قلعة لحماية أسرارنا و أحلامنا، أمسنا و غدِنا. القلعة هي المكان الذي
نتخاصم و نتصالح فيه. دائماً اذا شعرت ان ثمة امر يُخفيه انطوان عني او ثمة
امر يزعجه كنت اصطحبه الى هنا حيث القلعة فيبوح لي بكل شيء. ذات مرة قال
لي انطوان و بينما نحن نجلس على احد صخور هذه القلعة" مافيي على جيوشك ياصبية فلشو تاخديني على القلعة".
وصلنا القلعة و بدا
التوتر يلوح على وجه كلاً منهما,انطوان و سام, و حاولوا لأكثر من مرة ان يتحدثوا بطريقة لا أفهمها.
وقفت أمامهم و بدأت بالبكاء لأني شعرت ان ثمة مايخفيانه عني. لمحت في عيني
انطوان دمعة مازلت اذكرها فزاد بكائي حينما لمحت دمعته، احتضنني انطوان
واخذ يردد" ماتخافي، ماحدا بيسترجي ياخدك من هون" لم افهم اي شيء. شدني
سام و قال لي:" مافيه شي غير انو انطوان خاف عليكِ لأنو كنتوا راح تعملوا
اكسيدونت على الطريق". نظرت الى انطوان فقال لي:" هيك صار". صِغَرُ سني و
الذي لم يتجاوز الثامنة في حينها جعلني اصدق ماقاله سام، فأخذت احاول اقناع
انطوان بأني مازلت على قيد الحياة. احتضنني انطوان و اخذ يردد" ماتخافي".
بَقِينا على البحر لساعتين و
بعدها عُدنا الى بيت سام. كنت اردد على انطوان ان النوم بدأ يختال عينيَّ
علّنا نعود الى البيت. اذكر اني افقت في اليوم التالي وانا في غرفة ماغي
اخت سام، يبدو ان النوم غالبني فغفوة في بيت سام. في الصباح، اصطحبني سام
الى بيتنا، وجدنا انطوان في الطريق، اخذني و عدنا الى البيت.
لم أسأل عن اي شيء و لا عن تلك المرأة التي شاهدتها بالأمس، لا اعرف حتى الأن لماذا؟
في
الطريق الى المدرسة لم يتفوه انطوان بأي كلمة، لا نصائح و لا تحذيرات. عند
بوابة المدرسة قال لي بأن لا اخرج من المدرسة ابداً تحت اي سبب و لأي سبب.
بعد
وجبة الغداء، اتيت بحقيبتي،كالمعتاد، الى انطوان لأبدأ في حل وظائفي. قال
لي انطوان بأنه يريد ان يخبرني بأمر ما. نظرت اليه فقال" امبارح اجت ست
بتكون صديقة امك الله يرحمه الخاصة و بده تجي اليوم تتزورك. اتصرفي على
طبيعتك". فقلت" أسأله عن امي". فقال" بدك تعرفي شي عن امك؟" فقلت" لا
ابداً" فقال" لكان منك مظطره تتسألي".
في
المساء، أتت امرأة تشعر لأول وهلة بأنها لا تنتمي لهذا المكان، امرأة
برجوازية لا تملك ماتقول. اقتربت لسلام عليها، فقالت جملتها التي مازالت
بين مسامعي" ماتغيرتي بالمره". فقلت لها" لا ابداً ". و للأمانة قبلتني على جبيني
و لم تعانقني. جلست مع الجميع بينما الجميع لم تعدو احاديثهم عن حركة
الطيران و الرحلات التي لم تتوفو في وقت الحرب. اعتذرت و قالت ان الوقت قد
حان لتُودِعنا. قالت لي" ديري بالك على حالك، ماتتشاقي". ادارت ظهرها و خرجت.
نظرت
الى انطوان و بدأت اتحدث كما تتحدث و امشي كما تمشي. فقال انطوان"
ماتتمسخري مابيصير, هيدي رفيقة امك" فقلت " ماممكن تكون هيدي رفيقة امي، هي
مابتعرف اكتر من انو تلعب بأطراف صابيعه".
انتهى ذالك اليوم الطويل بكلمتين من جدتي" هيدي رفيقة امك، بده تجي تزورنا من وقت لتاني، بتسميه خالتو ريما".
لست
غاضبة من جدتي و انطوان لأنهم لم يخبروني الحقيقة منذ البداية. هذه امي و
ليست صديقة امي. أُدرك خوفهم عليّ في حينها. لن يُضحوا بإبنتهم من أجل امرأة
لا تتعدى اهتماماتها عن حدود طلاء اظافرها، لا تعرف عن طفولتي
سوى بعض الملامح!
لم تَعد أمي
لزياراتنا سوى مرة واحدة بعد خمس سنوات. ثم زارتنا بعد اربع سنوات. فغابت
لسنوات و سنوات حتى عادت تُخبر حقيقتها.
سأقف هنا.. بالفعل بدأ التعب يتسلل اليّ و اظن اني بحاجة الى ان أتوارى عند مار الأن اكثر من اي شيء..
للبوح بقية ان أراد القدر..