على مشارف السياسة..
كل اللبنانيون يتذكرون جيداً ذالك التاريخ الفيصل في تاريخ وطنهم الممزق, انه 31 من تشرين الثاني من العام 1990. تُخبرنا جدتي دائماً عن هذا اليوم فتقول أنها رقصت وهي تبكي, رقصت فرحاً بنفي الجنيرال في ذالك اليوم الى فرنسا و بكت لإحتلال الجيش السوري على قصر بعبدا. جدّي دائماً يعود بي الى هذه الحادثة, أو النكسة كما يُسميها هو و جدتي, عندما يُحدثني عن تنوع الأديان من حولي و ضرورة إندماجي العقلاني معها. يقول جدي أن ديني الذي أُفطر عليه و ألتزم به هو خيار لا بد من إحترامه و من شكر الرب على أنه إختار ليَّ هذا الدين دون غيره. يقول لي بأن الرب ماختار لي هذا الدين إلا لأنه يعلم كم من الخير سأنال منه و كم منه سيتلائم معي فكل إبن أدم فُطر لتعاليم دينٍ دون سواه. يقول ليَّ جدّي بأن خياري "الحتمي" بإلتزامي بديني الذي أقتنع به هو تماماً كخيار نفي الجنيرال عون الى فرنسا بينما إحترامي الإلزامي أيضاً لباقي الأديان هو تماماً كقرار إحتلال السوري لقصر بعبدا. فكون اللبنانيون فرحوا بنفي الجنيرال على يد السوري, إثر تحالف سمير جعجع يومها مع السوريين, عليهم أن يحترموا قرارهم و خيارهم و يتحملوا ضريبة ذالك الخيار. إعتناقكَ لدين له ضريبة حتمية وهي إحترامكَ لقراركَ وعليه إحترامكَ لغيره من الأديان. دائماً تتنمى جدتي لو أن الناس إستبدلوا مقولة " لكل فعل ردة فعل" بأن لكل فعل تبعات, فعندما تقول ردة فعل يتبارى الى ذهنك التشنج و التعصب و الإندفاع, بينما تبعات الفعل توحي اليكَ بأن ثمة فعل من بعده لحظات لتفكير و التأمل يعقُبها إتخاذ قرارات, و كل فعل يأتي بعد تأمل يكسوه العقلانية أكثر من تلك التي تستثيرها العصبيات, نفي الجنيرال عون كان فعل و خيار الدين الذي تعتنقه فعل أيضاً لكن ردة الفعل مع الأول كانت إرتجالية إندفاعية, كما يقولان ليَّ جدّي و جدتي, بينما في الثانية فهي تبعات نابعه بعد تأملنا لديننا الأم. إعتناق دين يبث التأمل في الروح و بقدر ذالك التأمل يكون تقبل الأخر, فتقل ردود الأفعال الإرتجالية ليحل محلها تبعياتٌ عقلانية.
منذ ذالك اليوم, حيث لم أتجاوز السابعة من العمر, أصبح بيت العائلة لا يخلو عن الحديث عن الأوضاع اللبنانية السورية, أصوات نشرات الأخبار لا تفارق صالون البيت. في مكتبة جدّي كانت الأحاديث عن كمال جنبلاط كثيرة و عن الشيخ الجميّل أيضاً. كنت أسمع عن حرب الستة أيام و عن الشيوعيين. كانت جدتي تُحدثني عن حروب الشيوعيون في العام 1986 وكيف عادت الجيوش السورية الى بيروت الغربية في حينها. أما أنطوان فكان يخبرني كثيراً هو و رفاقه عن أيام التهجير من الجبل و عن اغتيال الشيخ بيار الجميل في 1984.
كان الجميع في البيت يسرد لي أحداث التهجير و الإغتيلات التي طالت رموز عاصروها و تعلقوا بها. كنت أسمع كل وجهات النظر إلا انه للأمانه ماسمعت قط أحداً يمتدح الجنيرال!.
عندما كنت في الثامنة من العمر تقريباً بدأت الأحاديث تحمل إسماً أكثر بروزاً عن غيره, إنه رفيق الحريري. كانت بيروت تحتفل بتولي الرفيق الشهيد الرئاسة لأول مرة. جدتي كانت دائماً تقول لجدّي تمازحه:" و الله و صار النا كلمة حق بهالبلد". كانت صيدا الأوفر نصيباً من هذا الفرح. كان الناس يعلقون الأمل على الرئيس الجديد حتى من قبل إلقائه للقسم. جدي بدأ يومها بتقديم الكتب التي تحكي عن بيروت على تلك الكتب الفلسفية و الصوفية التي كان يُقدسها و يفخر بعرضها في الصف الأول دائماً. و أنا أعمل معه في تنظيف المكتبة ظهيرة أحد تلك الأيام بدأ التعب يتسلل اليَّ بينما هو كان يقف على كُرسيَه الخشبي المتهالك. طلب مني أن أرفع إليه أحد كتب الراحل نقولا زياده, فرفعت الكتاب دون ان أنظر اليه اذ كان رأسي للأسفل من تعبي, فقال مبتسماً:" من اليوم و رايح راح ترفعي راسك لفوق" ثم وضع يداه على كتفي و نزل فجلس على كرسيه و قربني اليَّه فقال" لبنان كان متل هالكرسي, ضعيف بتسمعي أهات جراحاتو بس تقربي لعندو, بس بعد ماوصل رفيق الحريري على الحكومة راح يتغير لبنان, راح تنسمع فرحة لبنان من بعيد" ثم مدّ يده و قال:" بتشارطي انو لبنان راح يرجع جنة من السماء" و تراهنَا يومها على ثلاث كاسات من " الجلاب".
كنت أفخر بلبنان أكثر من أي شي. حتى أن جاد ,صديق أنطوان, قبل أن تقوى العلاقة بيننا كان يناديني " جميلة اللبنانية". كنت لا أقبل أي كلمة أنتقاص في حق لبنان.
أذكر أن أول مره " أطرد" بها من المدرسة كانت بسبب لبنان. كنت يومها في المرحلة الثانية تقريباً, لم يتجاوز عمري الثامنة بعد, كان ذالك بسبب الأنسة فضيلة. لم تكن الأنسة فضيلة من معلمات صفي, كانت تعلم المراحل المبكرة في المدرسة. كانت ذات جدور تلتقي مع السوريين الذين قدموا منذ الأزل لتدريس في صيدا. كانت غليظة الطباع حادة اللفظ. دخلت الأنسة فضيلة في صباح ذالك اليوم الى الصف و بدأت تتحدث الينا عن العلم و التعليم. سألت كل واحده عن أحلامها. وصلت الى أحلامي فقلت أريد أن أكون في بيروت. نظرت اليَّ من أعلى نظاراتها فقالت:" و انتي وين هلا؟" و قبل أن أجيب قالت:" أي مزبوط انت هلا بسوريا, برافو كلنا نحيي شوق!!" فقلت مباشرةً:" لا ياأنسة انا بصيدا مش بسوريا". قالت بصوت جهوري:" و صيدا شو! ماصيدا هي سوريا". جنَّ جنوني و رددت عليها:" صيدا تاج سوريا". وقفت هي و قالت: " تعي يابعدي هون, سمعيني شو حكيتي؟". فقلت: " صيدا تاج سوريا". فبدأت تُردد:" مين عيلتك أنتي, مين معلمك هالحكي؟". أنا في حينها للأمانة ظننت أنها تمتدح جدتي التي علمتني كل شي عن السياسة منذ أزلي, فوقفت بكل فخر و قلت لها:" ياأنسة مش لأنو سوريا اقرب لصيدا من بيروت يعني أنو السوريين يقشطونا ارضنا". لم أكن أعلم أني بحديثي هذا زدت فتيل الغيظ في قلب الأنسة فضيلة. أقتربت اليَّ و أمسكت بطرف مريلتي و أخذت تشدني خلفها حتى أوصلتني الى " الناظرة". هناك بدأت تدعي عليَّ مالم أقله و بأني تعديت عليها بالكلام و بأن عليَّ أن لا أعود سوى بجدتي. و للأمانة كنت لا أحب من يُقلل من شأني أو يتعامل معي وفقاً لعمري الصغير, فغضبت أكثر و قلت:" بكرا بجيبلك ستي تتعرفي أنا مين", يالجبروت غضبي منذ الأزل!
خرجت من المدرسة في ذالك اليوم و لاأعلم أين الوجهة. جدتي و جدّي حريصان دائماً على التعليم و من جيل" قُم للمعلم وافه التبجيل". كنت أعلم أن كل ماسأقوله لن يُقابل الا بغضب منهما و انا لا أحتمل عتب جدتي عليَّ في الوقت الذي كنت أشعر أني على حق!
في الطريق سمعت أحدهم ينادي بسمي فإذ به جاد الذي هو أيضاً طُرد من المدرسة لأنه " علق " مع أحد الطلاب فأنزله ضرباً فطُرد ليعود بوالدته. كنا نحن الإثنان نبحث عن منقذ.
توجهنا كالمعتاد الى القلعة قبالة البحر و بدأ يفكر بحل لموضوعي, أمانةً كنت أفتش عن حل قبل نهاية دوام انطوان لأني أعلم أن العقاب سيُضاعف بحضور انطوان.
فجأة وقف جاد و قال:" بسيطه مابده" فقلت:" شو". قال :" قومي معي". اتجهنا الى المدرسة و خلف سور المدرسة إختبأنا حتى بدأ الجميع بالخروج. طلب جاد مني أن أخبره عن الأنسة فضيلة بمجرد خروجها. وفعلاً أشرت اليها ثم قال :" خلاص روحي اوقفي حد الشجرة متل العادة انطري انطوان و ماتخبري حدا انو اتقلعتي من الصف و المساء بخبرك كل شي". و فعلاً جاء انطوان و عُدنا الى البيت. شعر أنطوان أن ثمة ماأخفيه لكني حاولت التهرب قدر المستطاع. في المساء و أنا أجلس مع أنطوان أمام البناية جاء جاد و سام كالمعتادة. كانا ينظران اليَّ و يبتسمان. وفي طريقنا الى " الدكنجي ابو علاء" كنت أمشي بجانب أنطوان بينما على الجانب الأخر كان سام. فجأه شدّ جاد شعري كي أمشي بالخلف, بجواره حيث كان جاد يُبطئ الخُطى. فبدأ سام يتحدث بصوت عالي لأنطوان و يُغني بينما جاد يهمسُ بأذني بأن أذهب الى المدرسة في الغد و بأن كل شيء انتهى و لست مضطرةً الى اصطحاب جدتي معي. الفرحة لم تسعني و الفضول أيضاً. كنت أُلح على جاد أن يخبرني عن ماحدث فقال لي بأن سام سيخبرني. بالفعل, همس الي سام بأنه بعد العشاء سيقذف من شرفتهم بتجاه شرفتنا ورقة يكتب بها ماحصل. و بعد العشاء كنت انتظر بشغف صوت الحجر على بلور الشرفة لأخرج لإستلام الورقة لكن حدس انطوان كان أقوى على سماع الحجر. فتح الورقة انطوان و قرأ أول جملة:" ياغنوجه قطعت هالمرة". أتبعها بالثانية:" اسمعي بالمختصر هلا أنا و خيك جاد ع ايدك صرنا زعران. لحقنا الأنسة و هددناها أو بتتركك ترجعي ع بكره على المدرسة و تحكي لناظرة انو سامحتك أو بدنا نضرب ابنه بالمدرسة و ماراح يرجع لعنده غير محمل". انطوان و بأسرع من" نسمة الهوى" دخل الى الصالون و قال:" تعي بدنا نحكي". دخلت الى غرفته فقال:" من أخرو و بلا طولة سيرة شو صاير مع الأنسة اليوم". الأطفال حينما تواجههم بأخطائهم يكونون كالقطط تماماً, يهاجمون بكل حروفهم. أخبرته و كلي جرأة فبدأ في اللحظة الاولى منفعل لكنه كان يحاول أن لا يضع عيناه في عيناي كي لا أكتشف إعجابه بما فعلت. بدأ يتماسك, أخذ يتوعد و يُهدد فإذ بجدتي تدخل الى الغرفة. قبل أن تتفوه بكلمة قلت لها كل شيء. ألتف الجميع حولي فشعرت بعظمة ماأنا صانعة. لم أتوقف عن تقليد الأنسة فضيلة في يومها حتى غفوة في حضن أنطوان كالعادة دون أن أشعر.
في صباح اليوم التالي أصطحبتني جدتي الى المدرسة و تحدثت الى ادارة المدرسة فكان لفت نظر للأنسة فضيلة أقل واجب. يومها كنت أشعر بأني رمز بطولي. ماأجمل أن يحمل بعض الرموز في لبنان نقاوة الطفولة. حتى عند عودتي الى المدرسة عُدت محمولةً على الأكتاف بينما جاد كان يُغني:" طلوا الصيادي" ليلتف الجميع من حولي هتافاً و تصفيقاً.
منذ ذالك اليوم وانا أنظر الى لبنان بعيون عائلتي اللبنانية التي تفخر برمزها المسيحي العادل تماماً كما تفخر برمزها السني. ترقص لهزيمة المسيحي المتخاذل رغم مسيحيتها و تفرح لهزيمة سُنيها المتهاون رغم سُنيتها, فالوطن يبقى فوق و قبل كل شيء.
كل اللبنانيون يتذكرون جيداً ذالك التاريخ الفيصل في تاريخ وطنهم الممزق, انه 31 من تشرين الثاني من العام 1990. تُخبرنا جدتي دائماً عن هذا اليوم فتقول أنها رقصت وهي تبكي, رقصت فرحاً بنفي الجنيرال في ذالك اليوم الى فرنسا و بكت لإحتلال الجيش السوري على قصر بعبدا. جدّي دائماً يعود بي الى هذه الحادثة, أو النكسة كما يُسميها هو و جدتي, عندما يُحدثني عن تنوع الأديان من حولي و ضرورة إندماجي العقلاني معها. يقول جدي أن ديني الذي أُفطر عليه و ألتزم به هو خيار لا بد من إحترامه و من شكر الرب على أنه إختار ليَّ هذا الدين دون غيره. يقول لي بأن الرب ماختار لي هذا الدين إلا لأنه يعلم كم من الخير سأنال منه و كم منه سيتلائم معي فكل إبن أدم فُطر لتعاليم دينٍ دون سواه. يقول ليَّ جدّي بأن خياري "الحتمي" بإلتزامي بديني الذي أقتنع به هو تماماً كخيار نفي الجنيرال عون الى فرنسا بينما إحترامي الإلزامي أيضاً لباقي الأديان هو تماماً كقرار إحتلال السوري لقصر بعبدا. فكون اللبنانيون فرحوا بنفي الجنيرال على يد السوري, إثر تحالف سمير جعجع يومها مع السوريين, عليهم أن يحترموا قرارهم و خيارهم و يتحملوا ضريبة ذالك الخيار. إعتناقكَ لدين له ضريبة حتمية وهي إحترامكَ لقراركَ وعليه إحترامكَ لغيره من الأديان. دائماً تتنمى جدتي لو أن الناس إستبدلوا مقولة " لكل فعل ردة فعل" بأن لكل فعل تبعات, فعندما تقول ردة فعل يتبارى الى ذهنك التشنج و التعصب و الإندفاع, بينما تبعات الفعل توحي اليكَ بأن ثمة فعل من بعده لحظات لتفكير و التأمل يعقُبها إتخاذ قرارات, و كل فعل يأتي بعد تأمل يكسوه العقلانية أكثر من تلك التي تستثيرها العصبيات, نفي الجنيرال عون كان فعل و خيار الدين الذي تعتنقه فعل أيضاً لكن ردة الفعل مع الأول كانت إرتجالية إندفاعية, كما يقولان ليَّ جدّي و جدتي, بينما في الثانية فهي تبعات نابعه بعد تأملنا لديننا الأم. إعتناق دين يبث التأمل في الروح و بقدر ذالك التأمل يكون تقبل الأخر, فتقل ردود الأفعال الإرتجالية ليحل محلها تبعياتٌ عقلانية.
منذ ذالك اليوم, حيث لم أتجاوز السابعة من العمر, أصبح بيت العائلة لا يخلو عن الحديث عن الأوضاع اللبنانية السورية, أصوات نشرات الأخبار لا تفارق صالون البيت. في مكتبة جدّي كانت الأحاديث عن كمال جنبلاط كثيرة و عن الشيخ الجميّل أيضاً. كنت أسمع عن حرب الستة أيام و عن الشيوعيين. كانت جدتي تُحدثني عن حروب الشيوعيون في العام 1986 وكيف عادت الجيوش السورية الى بيروت الغربية في حينها. أما أنطوان فكان يخبرني كثيراً هو و رفاقه عن أيام التهجير من الجبل و عن اغتيال الشيخ بيار الجميل في 1984.
كان الجميع في البيت يسرد لي أحداث التهجير و الإغتيلات التي طالت رموز عاصروها و تعلقوا بها. كنت أسمع كل وجهات النظر إلا انه للأمانه ماسمعت قط أحداً يمتدح الجنيرال!.
عندما كنت في الثامنة من العمر تقريباً بدأت الأحاديث تحمل إسماً أكثر بروزاً عن غيره, إنه رفيق الحريري. كانت بيروت تحتفل بتولي الرفيق الشهيد الرئاسة لأول مرة. جدتي كانت دائماً تقول لجدّي تمازحه:" و الله و صار النا كلمة حق بهالبلد". كانت صيدا الأوفر نصيباً من هذا الفرح. كان الناس يعلقون الأمل على الرئيس الجديد حتى من قبل إلقائه للقسم. جدي بدأ يومها بتقديم الكتب التي تحكي عن بيروت على تلك الكتب الفلسفية و الصوفية التي كان يُقدسها و يفخر بعرضها في الصف الأول دائماً. و أنا أعمل معه في تنظيف المكتبة ظهيرة أحد تلك الأيام بدأ التعب يتسلل اليَّ بينما هو كان يقف على كُرسيَه الخشبي المتهالك. طلب مني أن أرفع إليه أحد كتب الراحل نقولا زياده, فرفعت الكتاب دون ان أنظر اليه اذ كان رأسي للأسفل من تعبي, فقال مبتسماً:" من اليوم و رايح راح ترفعي راسك لفوق" ثم وضع يداه على كتفي و نزل فجلس على كرسيه و قربني اليَّه فقال" لبنان كان متل هالكرسي, ضعيف بتسمعي أهات جراحاتو بس تقربي لعندو, بس بعد ماوصل رفيق الحريري على الحكومة راح يتغير لبنان, راح تنسمع فرحة لبنان من بعيد" ثم مدّ يده و قال:" بتشارطي انو لبنان راح يرجع جنة من السماء" و تراهنَا يومها على ثلاث كاسات من " الجلاب".
كنت أفخر بلبنان أكثر من أي شي. حتى أن جاد ,صديق أنطوان, قبل أن تقوى العلاقة بيننا كان يناديني " جميلة اللبنانية". كنت لا أقبل أي كلمة أنتقاص في حق لبنان.
أذكر أن أول مره " أطرد" بها من المدرسة كانت بسبب لبنان. كنت يومها في المرحلة الثانية تقريباً, لم يتجاوز عمري الثامنة بعد, كان ذالك بسبب الأنسة فضيلة. لم تكن الأنسة فضيلة من معلمات صفي, كانت تعلم المراحل المبكرة في المدرسة. كانت ذات جدور تلتقي مع السوريين الذين قدموا منذ الأزل لتدريس في صيدا. كانت غليظة الطباع حادة اللفظ. دخلت الأنسة فضيلة في صباح ذالك اليوم الى الصف و بدأت تتحدث الينا عن العلم و التعليم. سألت كل واحده عن أحلامها. وصلت الى أحلامي فقلت أريد أن أكون في بيروت. نظرت اليَّ من أعلى نظاراتها فقالت:" و انتي وين هلا؟" و قبل أن أجيب قالت:" أي مزبوط انت هلا بسوريا, برافو كلنا نحيي شوق!!" فقلت مباشرةً:" لا ياأنسة انا بصيدا مش بسوريا". قالت بصوت جهوري:" و صيدا شو! ماصيدا هي سوريا". جنَّ جنوني و رددت عليها:" صيدا تاج سوريا". وقفت هي و قالت: " تعي يابعدي هون, سمعيني شو حكيتي؟". فقلت: " صيدا تاج سوريا". فبدأت تُردد:" مين عيلتك أنتي, مين معلمك هالحكي؟". أنا في حينها للأمانة ظننت أنها تمتدح جدتي التي علمتني كل شي عن السياسة منذ أزلي, فوقفت بكل فخر و قلت لها:" ياأنسة مش لأنو سوريا اقرب لصيدا من بيروت يعني أنو السوريين يقشطونا ارضنا". لم أكن أعلم أني بحديثي هذا زدت فتيل الغيظ في قلب الأنسة فضيلة. أقتربت اليَّ و أمسكت بطرف مريلتي و أخذت تشدني خلفها حتى أوصلتني الى " الناظرة". هناك بدأت تدعي عليَّ مالم أقله و بأني تعديت عليها بالكلام و بأن عليَّ أن لا أعود سوى بجدتي. و للأمانة كنت لا أحب من يُقلل من شأني أو يتعامل معي وفقاً لعمري الصغير, فغضبت أكثر و قلت:" بكرا بجيبلك ستي تتعرفي أنا مين", يالجبروت غضبي منذ الأزل!
خرجت من المدرسة في ذالك اليوم و لاأعلم أين الوجهة. جدتي و جدّي حريصان دائماً على التعليم و من جيل" قُم للمعلم وافه التبجيل". كنت أعلم أن كل ماسأقوله لن يُقابل الا بغضب منهما و انا لا أحتمل عتب جدتي عليَّ في الوقت الذي كنت أشعر أني على حق!
في الطريق سمعت أحدهم ينادي بسمي فإذ به جاد الذي هو أيضاً طُرد من المدرسة لأنه " علق " مع أحد الطلاب فأنزله ضرباً فطُرد ليعود بوالدته. كنا نحن الإثنان نبحث عن منقذ.
توجهنا كالمعتاد الى القلعة قبالة البحر و بدأ يفكر بحل لموضوعي, أمانةً كنت أفتش عن حل قبل نهاية دوام انطوان لأني أعلم أن العقاب سيُضاعف بحضور انطوان.
فجأة وقف جاد و قال:" بسيطه مابده" فقلت:" شو". قال :" قومي معي". اتجهنا الى المدرسة و خلف سور المدرسة إختبأنا حتى بدأ الجميع بالخروج. طلب جاد مني أن أخبره عن الأنسة فضيلة بمجرد خروجها. وفعلاً أشرت اليها ثم قال :" خلاص روحي اوقفي حد الشجرة متل العادة انطري انطوان و ماتخبري حدا انو اتقلعتي من الصف و المساء بخبرك كل شي". و فعلاً جاء انطوان و عُدنا الى البيت. شعر أنطوان أن ثمة ماأخفيه لكني حاولت التهرب قدر المستطاع. في المساء و أنا أجلس مع أنطوان أمام البناية جاء جاد و سام كالمعتادة. كانا ينظران اليَّ و يبتسمان. وفي طريقنا الى " الدكنجي ابو علاء" كنت أمشي بجانب أنطوان بينما على الجانب الأخر كان سام. فجأه شدّ جاد شعري كي أمشي بالخلف, بجواره حيث كان جاد يُبطئ الخُطى. فبدأ سام يتحدث بصوت عالي لأنطوان و يُغني بينما جاد يهمسُ بأذني بأن أذهب الى المدرسة في الغد و بأن كل شيء انتهى و لست مضطرةً الى اصطحاب جدتي معي. الفرحة لم تسعني و الفضول أيضاً. كنت أُلح على جاد أن يخبرني عن ماحدث فقال لي بأن سام سيخبرني. بالفعل, همس الي سام بأنه بعد العشاء سيقذف من شرفتهم بتجاه شرفتنا ورقة يكتب بها ماحصل. و بعد العشاء كنت انتظر بشغف صوت الحجر على بلور الشرفة لأخرج لإستلام الورقة لكن حدس انطوان كان أقوى على سماع الحجر. فتح الورقة انطوان و قرأ أول جملة:" ياغنوجه قطعت هالمرة". أتبعها بالثانية:" اسمعي بالمختصر هلا أنا و خيك جاد ع ايدك صرنا زعران. لحقنا الأنسة و هددناها أو بتتركك ترجعي ع بكره على المدرسة و تحكي لناظرة انو سامحتك أو بدنا نضرب ابنه بالمدرسة و ماراح يرجع لعنده غير محمل". انطوان و بأسرع من" نسمة الهوى" دخل الى الصالون و قال:" تعي بدنا نحكي". دخلت الى غرفته فقال:" من أخرو و بلا طولة سيرة شو صاير مع الأنسة اليوم". الأطفال حينما تواجههم بأخطائهم يكونون كالقطط تماماً, يهاجمون بكل حروفهم. أخبرته و كلي جرأة فبدأ في اللحظة الاولى منفعل لكنه كان يحاول أن لا يضع عيناه في عيناي كي لا أكتشف إعجابه بما فعلت. بدأ يتماسك, أخذ يتوعد و يُهدد فإذ بجدتي تدخل الى الغرفة. قبل أن تتفوه بكلمة قلت لها كل شيء. ألتف الجميع حولي فشعرت بعظمة ماأنا صانعة. لم أتوقف عن تقليد الأنسة فضيلة في يومها حتى غفوة في حضن أنطوان كالعادة دون أن أشعر.
في صباح اليوم التالي أصطحبتني جدتي الى المدرسة و تحدثت الى ادارة المدرسة فكان لفت نظر للأنسة فضيلة أقل واجب. يومها كنت أشعر بأني رمز بطولي. ماأجمل أن يحمل بعض الرموز في لبنان نقاوة الطفولة. حتى عند عودتي الى المدرسة عُدت محمولةً على الأكتاف بينما جاد كان يُغني:" طلوا الصيادي" ليلتف الجميع من حولي هتافاً و تصفيقاً.
منذ ذالك اليوم وانا أنظر الى لبنان بعيون عائلتي اللبنانية التي تفخر برمزها المسيحي العادل تماماً كما تفخر برمزها السني. ترقص لهزيمة المسيحي المتخاذل رغم مسيحيتها و تفرح لهزيمة سُنيها المتهاون رغم سُنيتها, فالوطن يبقى فوق و قبل كل شيء.