الاثنين، 9 أبريل 2012

على مشارف السياسة..

                               على مشارف السياسة.. 
كل اللبنانيون يتذكرون جيداً ذالك التاريخ الفيصل في تاريخ وطنهم الممزق, انه 31 من تشرين الثاني من العام 1990. تُخبرنا جدتي دائماً عن هذا اليوم فتقول أنها رقصت وهي تبكي, رقصت فرحاً بنفي الجنيرال في ذالك اليوم الى فرنسا و بكت لإحتلال الجيش السوري على قصر بعبدا. جدّي دائماً  يعود بي الى هذه الحادثة, أو النكسة كما يُسميها هو و جدتي, عندما يُحدثني عن تنوع الأديان من حولي و ضرورة إندماجي العقلاني معها. يقول جدي أن ديني الذي أُفطر عليه و ألتزم به هو خيار لا بد من إحترامه و من شكر الرب على أنه إختار ليَّ هذا الدين دون غيره. يقول لي بأن الرب ماختار لي هذا الدين إلا لأنه يعلم كم من الخير سأنال منه و كم منه سيتلائم معي فكل إبن أدم فُطر لتعاليم دينٍ دون سواه. يقول ليَّ جدّي بأن خياري "الحتمي" بإلتزامي بديني الذي أقتنع به هو تماماً كخيار نفي الجنيرال عون الى فرنسا بينما إحترامي الإلزامي أيضاً لباقي الأديان هو تماماً كقرار إحتلال السوري لقصر بعبدا. فكون اللبنانيون فرحوا بنفي الجنيرال على يد السوري, إثر تحالف سمير جعجع يومها مع السوريين, عليهم أن يحترموا قرارهم و خيارهم و يتحملوا ضريبة ذالك الخيار. إعتناقكَ لدين له ضريبة حتمية وهي إحترامكَ لقراركَ وعليه إحترامكَ لغيره من الأديان. دائماً تتنمى جدتي لو أن الناس إستبدلوا مقولة " لكل فعل ردة فعل" بأن لكل فعل تبعات, فعندما تقول ردة فعل يتبارى الى ذهنك التشنج و التعصب و الإندفاع, بينما تبعات الفعل توحي اليكَ بأن ثمة فعل من بعده لحظات لتفكير و التأمل يعقُبها إتخاذ قرارات, و كل فعل يأتي بعد تأمل يكسوه العقلانية أكثر من تلك التي تستثيرها العصبيات, نفي الجنيرال عون كان فعل و خيار الدين الذي تعتنقه فعل أيضاً لكن ردة الفعل مع الأول كانت إرتجالية إندفاعية, كما يقولان ليَّ جدّي و جدتي, بينما في الثانية فهي تبعات نابعه بعد تأملنا لديننا الأم. إعتناق دين يبث التأمل في الروح و بقدر ذالك التأمل يكون تقبل الأخر, فتقل ردود الأفعال الإرتجالية ليحل محلها تبعياتٌ عقلانية.
منذ ذالك اليوم, حيث لم أتجاوز السابعة من العمر, أصبح بيت العائلة لا يخلو عن الحديث عن الأوضاع اللبنانية السورية, أصوات نشرات الأخبار لا تفارق صالون البيت. في مكتبة جدّي كانت الأحاديث عن كمال جنبلاط كثيرة و عن الشيخ الجميّل أيضاً. كنت أسمع عن حرب الستة أيام و عن الشيوعيين. كانت جدتي تُحدثني عن حروب الشيوعيون في العام 1986 وكيف عادت الجيوش السورية الى بيروت الغربية في حينها. أما أنطوان فكان يخبرني كثيراً هو و رفاقه عن أيام التهجير من الجبل و عن اغتيال الشيخ بيار الجميل في 1984.
كان الجميع في البيت يسرد لي أحداث التهجير و الإغتيلات التي طالت رموز عاصروها و تعلقوا بها. كنت أسمع كل وجهات النظر إلا انه للأمانه ماسمعت قط أحداً يمتدح الجنيرال!.
عندما كنت في الثامنة من العمر تقريباً بدأت الأحاديث تحمل إسماً أكثر بروزاً عن غيره, إنه رفيق الحريري. كانت بيروت تحتفل بتولي الرفيق الشهيد الرئاسة لأول مرة. جدتي كانت دائماً تقول لجدّي تمازحه:" و الله و صار النا كلمة حق بهالبلد". كانت صيدا الأوفر نصيباً من هذا الفرح. كان الناس يعلقون الأمل على الرئيس الجديد حتى من قبل إلقائه للقسم. جدي بدأ يومها بتقديم الكتب التي تحكي عن بيروت على تلك الكتب الفلسفية و الصوفية التي كان يُقدسها و يفخر بعرضها في الصف الأول دائماً. و أنا أعمل معه في تنظيف المكتبة ظهيرة أحد تلك الأيام بدأ التعب يتسلل اليَّ بينما هو كان يقف على كُرسيَه الخشبي المتهالك. طلب مني أن أرفع إليه أحد كتب الراحل نقولا زياده, فرفعت الكتاب دون ان أنظر اليه اذ كان رأسي للأسفل من تعبي, فقال مبتسماً:" من اليوم و رايح راح ترفعي راسك لفوق" ثم وضع يداه على كتفي و نزل فجلس على كرسيه و قربني اليَّه فقال" لبنان كان متل هالكرسي, ضعيف بتسمعي أهات جراحاتو بس تقربي لعندو, بس بعد ماوصل رفيق الحريري على الحكومة راح يتغير لبنان, راح تنسمع فرحة لبنان من بعيد" ثم مدّ يده و قال:" بتشارطي انو لبنان راح يرجع  جنة من السماء" و تراهنَا يومها على ثلاث كاسات من " الجلاب". 
كنت أفخر بلبنان أكثر من أي شي. حتى أن جاد ,صديق أنطوان, قبل أن تقوى العلاقة بيننا كان يناديني " جميلة اللبنانية". كنت لا أقبل أي كلمة  أنتقاص في حق لبنان. 
أذكر أن أول مره " أطرد" بها من المدرسة كانت بسبب لبنان. كنت يومها في المرحلة الثانية تقريباً, لم يتجاوز عمري الثامنة بعد, كان ذالك بسبب الأنسة فضيلة. لم تكن الأنسة فضيلة من معلمات صفي, كانت تعلم المراحل المبكرة في المدرسة. كانت ذات جدور تلتقي مع السوريين الذين قدموا منذ الأزل لتدريس في صيدا. كانت غليظة الطباع حادة اللفظ. دخلت الأنسة فضيلة في صباح ذالك اليوم الى الصف و بدأت تتحدث الينا عن العلم و التعليم. سألت كل واحده عن أحلامها. وصلت الى أحلامي فقلت أريد أن أكون في بيروت. نظرت اليَّ من أعلى نظاراتها فقالت:" و انتي وين هلا؟" و قبل أن أجيب قالت:" أي مزبوط انت هلا بسوريا, برافو كلنا نحيي شوق!!" فقلت مباشرةً:" لا ياأنسة انا بصيدا مش بسوريا". قالت بصوت جهوري:" و صيدا شو! ماصيدا هي سوريا". جنَّ جنوني و رددت عليها:" صيدا تاج سوريا". وقفت هي و قالت: " تعي يابعدي هون, سمعيني شو حكيتي؟". فقلت: " صيدا تاج سوريا". فبدأت تُردد:" مين عيلتك أنتي, مين معلمك هالحكي؟". أنا في حينها للأمانة ظننت أنها تمتدح جدتي التي علمتني كل شي عن السياسة منذ أزلي, فوقفت بكل فخر و قلت لها:" ياأنسة مش لأنو سوريا اقرب لصيدا من بيروت يعني أنو السوريين يقشطونا ارضنا". لم أكن أعلم أني بحديثي هذا زدت فتيل الغيظ في قلب الأنسة فضيلة. أقتربت اليَّ و أمسكت بطرف مريلتي و أخذت تشدني خلفها حتى أوصلتني الى " الناظرة". هناك بدأت تدعي عليَّ مالم أقله و بأني تعديت عليها بالكلام و بأن عليَّ أن لا أعود سوى بجدتي. و للأمانة كنت لا أحب من يُقلل من شأني أو  يتعامل معي وفقاً لعمري الصغير, فغضبت أكثر و قلت:" بكرا بجيبلك ستي تتعرفي أنا مين", يالجبروت غضبي منذ الأزل!
خرجت من المدرسة في ذالك اليوم و لاأعلم أين الوجهة. جدتي و جدّي حريصان دائماً على التعليم و من جيل" قُم للمعلم وافه التبجيل". كنت أعلم أن كل ماسأقوله لن يُقابل الا بغضب منهما و انا لا أحتمل عتب جدتي عليَّ في الوقت الذي كنت أشعر أني على حق!

في الطريق سمعت أحدهم ينادي بسمي فإذ به جاد الذي هو أيضاً طُرد من المدرسة لأنه " علق " مع أحد الطلاب فأنزله ضرباً فطُرد ليعود بوالدته. كنا نحن الإثنان نبحث عن منقذ.
توجهنا كالمعتاد الى القلعة قبالة البحر و بدأ يفكر بحل لموضوعي, أمانةً كنت أفتش عن حل قبل نهاية دوام انطوان لأني أعلم أن العقاب سيُضاعف بحضور انطوان.
فجأة وقف جاد و قال:" بسيطه مابده" فقلت:" شو". قال :" قومي معي". اتجهنا الى المدرسة و خلف سور المدرسة إختبأنا حتى بدأ الجميع بالخروج. طلب جاد مني أن أخبره عن الأنسة فضيلة بمجرد خروجها. وفعلاً أشرت اليها ثم قال :" خلاص روحي اوقفي حد الشجرة متل العادة انطري انطوان و ماتخبري حدا انو اتقلعتي من الصف و المساء بخبرك كل شي". و فعلاً جاء انطوان و عُدنا الى البيت. شعر أنطوان أن ثمة ماأخفيه لكني حاولت التهرب قدر المستطاع. في المساء و أنا أجلس مع أنطوان أمام البناية جاء جاد و سام كالمعتادة. كانا ينظران اليَّ و يبتسمان. وفي طريقنا الى " الدكنجي ابو علاء" كنت أمشي بجانب أنطوان بينما على الجانب الأخر كان سام. فجأه شدّ جاد شعري كي أمشي بالخلف, بجواره حيث كان جاد يُبطئ الخُطى. فبدأ سام يتحدث بصوت عالي لأنطوان و يُغني بينما جاد يهمسُ بأذني بأن أذهب الى المدرسة في الغد و بأن كل شيء انتهى و لست مضطرةً الى اصطحاب جدتي معي. الفرحة لم تسعني و الفضول أيضاً. كنت أُلح على جاد أن يخبرني عن ماحدث فقال لي بأن سام سيخبرني. بالفعل, همس الي سام بأنه بعد العشاء سيقذف من شرفتهم بتجاه شرفتنا ورقة يكتب بها ماحصل. و بعد العشاء كنت انتظر بشغف صوت الحجر على بلور الشرفة لأخرج لإستلام الورقة لكن حدس انطوان كان أقوى على سماع الحجر. فتح الورقة انطوان و قرأ أول جملة:" ياغنوجه قطعت هالمرة". أتبعها بالثانية:" اسمعي بالمختصر هلا أنا و خيك جاد ع ايدك صرنا زعران. لحقنا الأنسة و هددناها أو بتتركك ترجعي ع بكره على المدرسة و تحكي لناظرة انو سامحتك أو بدنا نضرب ابنه بالمدرسة و ماراح يرجع لعنده غير محمل". انطوان و بأسرع من" نسمة الهوى" دخل الى الصالون و قال:" تعي بدنا نحكي". دخلت الى غرفته فقال:" من أخرو و بلا طولة سيرة شو صاير مع الأنسة اليوم". الأطفال حينما تواجههم بأخطائهم يكونون كالقطط تماماً, يهاجمون بكل حروفهم. أخبرته و كلي جرأة فبدأ في اللحظة الاولى منفعل لكنه كان يحاول أن لا يضع عيناه في عيناي كي لا أكتشف إعجابه بما فعلت. بدأ يتماسك, أخذ يتوعد و يُهدد فإذ بجدتي تدخل الى الغرفة. قبل أن تتفوه بكلمة قلت لها كل شيء. ألتف الجميع حولي فشعرت بعظمة ماأنا صانعة. لم أتوقف عن تقليد الأنسة فضيلة في يومها حتى غفوة في حضن أنطوان كالعادة دون أن أشعر.
في صباح اليوم التالي أصطحبتني جدتي الى المدرسة و تحدثت الى ادارة المدرسة فكان لفت نظر للأنسة فضيلة أقل واجب. يومها كنت أشعر بأني رمز بطولي. ماأجمل أن يحمل بعض الرموز في لبنان نقاوة الطفولة. حتى عند عودتي الى المدرسة عُدت محمولةً على الأكتاف بينما جاد كان يُغني:" طلوا الصيادي" ليلتف الجميع من حولي هتافاً و تصفيقاً. 
منذ ذالك اليوم وانا أنظر الى لبنان بعيون عائلتي اللبنانية التي تفخر برمزها المسيحي العادل تماماً كما تفخر برمزها السني. ترقص لهزيمة المسيحي المتخاذل رغم مسيحيتها و تفرح لهزيمة سُنيها المتهاون رغم سُنيتها, فالوطن يبقى فوق و قبل كل شيء.

السبت، 7 أبريل 2012

عودة الغرباء..

                                عودة الغرباء..
فتحتُ عينيَّ هذا الصباح على مار متمدد على الأريكة المقابلة لسريري، شعرت بتأنيب الضمير. أذكر اني غفوة البارحة و انا اتوسل اليه بأن يغادر الى الفندق لأنه لن يستطيع النوم في المستشفى، يبدو ان إلحاح المنوم الذي اعطتني اياه الممرضة في وقتها كان اقوى من إلحاحي على مار. وككل الصباحات، دخلت جوليانا الى الغرفة فستيقظ مار واشرقت الشمس.
"اذا بدك تكتبي بتاكلي كل الترويقه" كان هذا هو شرط مار. هاأنا افتح جهازي و مار كذالك، هو يتفحص ايميلات عمله و انا اتفحص جودة ذاكرتي.
اعود الى زيارتي الأولى لبيروت، فبعد مار مخايل و برج البراجنه توجهنا الى الواجهة البحرية قبالة البحر. وصلنا الى هناك فكانت مواج الدمار اقوى من أمواج البحر. أختفت المقاهي، غاب صوت النرد، تبخرت روائح الأرجيلة، تكثفت رائحة القهوة و جفت أوراق كتب المثقفون. اخذت الأمواج كل ذكريات جدي التي لطالما اغمضنا اعيننا على همساته في كل مساء. اخذ جدي، جدتي و خالتي جيزيل مكانهم على احد الصخور على طرف البحر بينما راحت سارا تسابق الأمواج فاصطحبني انطوان الى بائع طائرات الورق ليشترى لي واحدة منها. راحت طائرتي الورقية تسابق امواج البحر و جدي و جدتي يتسابقون بعضهم البعض في البوح عن تلك اللقاءات الجميلة التي كانا يعمرانها هنا على اطراف البحر. بعدها بدأ الصيادون في العودة الى الشاطئ فغادرنا المكان الى احد المطاعم البحرية التي تكتفي فقط بعمل السمك المشوي و الحمص البيروتي، كان المطعم بجوار كازينو بيروت الأن، اعتقد ان اسمه كان شط بيروت ان لم تخنِّ الذاكرة.
اذكر اننا في يومها اصطحبنا جدي الى حرج بيروت. حرج بيروت اقفلت وقت الحرب لتعاود البلدية فتحها بمجرد وقوف طبول الحرب. 
و بمجرد ان لمحت "زنزوقة العيد" ، المراجيح، هناك في الجوار تحركت الطفولة بداخلي بكل جموح. و ماان بدأت الشمس بالذبول اخذنا اول سيارة اجرة مرت امامنا و غادرنا بيروت. في طريق عودتنا لا اذكر اي شيء لأن التعب اخذ نصيبه مني. و في حضنِ جدتي غفوة.
عندما وصلنا الى البناية وجدنا سيارة سوداء اللون تقف امام البناية بينما سام كان يجلس تحت شجرة الليمون المقابلة لبنايتنا. سام ترجل بسرعة بتجاة انطوان و قال له:" خلينا نروح حد القلعة هلا" فرد انطوان بأنه متعب من الطريق و بأني انا ايضاً متعبة. اصر سام على انطوان و فجأة ارتفع صوت سام و حملني من بين يدي انطوان و قال:" تعي معي هلا لعند القلعة"!. لم يفهم احد سبب إلحاح سام. و فجأة خرجت مرأة من البناية و قالت بصوت عالي:" اخيراً رجعتوا". صمت الجميع فشدني سام من يدي و لحق بنا انطوان و توجهنا الى القلعة البحرية قبالة البحر.
القلعة البحرية ماهي إلا قلعة لحماية أسرارنا و أحلامنا، أمسنا و غدِنا. القلعة هي المكان الذي نتخاصم و نتصالح فيه. دائماً اذا شعرت ان ثمة امر يُخفيه انطوان عني او ثمة امر يزعجه كنت اصطحبه الى هنا حيث القلعة فيبوح لي بكل شيء. ذات مرة قال لي انطوان و بينما نحن نجلس على احد صخور هذه القلعة" مافيي على جيوشك ياصبية فلشو تاخديني على القلعة". 
وصلنا القلعة و بدا التوتر يلوح على وجه كلاً منهما,انطوان و سام,  و حاولوا لأكثر من مرة ان يتحدثوا بطريقة لا أفهمها. وقفت أمامهم و بدأت بالبكاء لأني شعرت ان ثمة مايخفيانه عني. لمحت في عيني انطوان دمعة مازلت اذكرها فزاد بكائي حينما لمحت دمعته، احتضنني انطوان واخذ يردد" ماتخافي، ماحدا بيسترجي ياخدك من هون" لم افهم اي شيء. شدني سام و قال لي:" مافيه شي غير انو انطوان خاف عليكِ لأنو كنتوا راح تعملوا اكسيدونت على الطريق". نظرت الى انطوان فقال لي:" هيك صار". صِغَرُ سني و الذي لم يتجاوز الثامنة في حينها جعلني اصدق ماقاله سام، فأخذت احاول اقناع انطوان بأني مازلت على قيد الحياة. احتضنني انطوان و اخذ يردد" ماتخافي".
بَقِينا على البحر لساعتين و بعدها عُدنا الى بيت سام. كنت اردد على انطوان ان النوم بدأ  يختال عينيَّ علّنا نعود الى البيت. اذكر اني افقت في اليوم التالي وانا في غرفة ماغي اخت سام، يبدو ان النوم غالبني فغفوة في بيت سام. في الصباح، اصطحبني سام الى بيتنا، وجدنا انطوان في الطريق، اخذني و عدنا الى البيت.
لم أسأل عن اي شيء و لا عن تلك المرأة التي شاهدتها بالأمس، لا اعرف حتى الأن لماذا؟
في الطريق الى المدرسة لم يتفوه انطوان بأي كلمة، لا نصائح و لا تحذيرات. عند بوابة المدرسة قال لي بأن لا اخرج من المدرسة ابداً تحت اي سبب و لأي سبب. 
بعد وجبة الغداء، اتيت بحقيبتي،كالمعتاد،  الى انطوان لأبدأ في حل وظائفي. قال لي انطوان بأنه يريد ان يخبرني بأمر ما. نظرت اليه فقال" امبارح اجت ست بتكون صديقة امك الله يرحمه الخاصة و بده تجي اليوم تتزورك. اتصرفي على طبيعتك". فقلت" أسأله عن امي". فقال" بدك تعرفي شي عن امك؟" فقلت" لا ابداً" فقال" لكان منك مظطره تتسألي".
في المساء، أتت امرأة تشعر لأول وهلة بأنها لا تنتمي لهذا المكان، امرأة برجوازية لا تملك ماتقول. اقتربت لسلام عليها، فقالت جملتها التي مازالت بين مسامعي" ماتغيرتي بالمره". فقلت لها" لا ابداً ". و للأمانة قبلتني على جبيني و لم تعانقني. جلست مع الجميع بينما الجميع لم تعدو احاديثهم عن حركة الطيران و الرحلات التي لم تتوفو في وقت الحرب. اعتذرت و قالت ان الوقت قد حان لتُودِعنا. قالت لي" ديري بالك على حالك، ماتتشاقي". ادارت ظهرها و خرجت.
نظرت الى انطوان و بدأت اتحدث كما تتحدث و امشي كما تمشي. فقال انطوان" ماتتمسخري مابيصير, هيدي رفيقة امك" فقلت " ماممكن تكون هيدي رفيقة امي، هي مابتعرف اكتر من انو تلعب بأطراف صابيعه".

انتهى ذالك اليوم الطويل بكلمتين من جدتي" هيدي رفيقة امك، بده تجي تزورنا من وقت لتاني، بتسميه خالتو ريما". 
لست غاضبة من جدتي و انطوان لأنهم  لم يخبروني الحقيقة منذ البداية. هذه امي و ليست صديقة امي. أُدرك خوفهم عليّ في حينها. لن يُضحوا بإبنتهم من أجل امرأة لا تتعدى اهتماماتها عن حدود طلاء اظافرها، لا تعرف عن طفولتي  سوى بعض الملامح!
لم تَعد أمي لزياراتنا سوى مرة واحدة بعد خمس سنوات. ثم زارتنا بعد اربع سنوات. فغابت لسنوات و سنوات حتى عادت تُخبر حقيقتها.

سأقف هنا.. بالفعل بدأ التعب يتسلل اليّ و اظن اني بحاجة الى ان أتوارى عند مار الأن اكثر من اي شيء..
 
للبوح بقية ان أراد القدر..

الجمعة، 6 أبريل 2012

حرب الذكريات..

                                 حرب الذكريات..
الأجواء في بيروت حالمة اليوم, الضباب يعتنق رأس بيروت كما أخبرنا صديقي سام حينما هاتفني أنا و مار اليوم من بيروت, وصديقي هيثم أيضاً اخبرني بذالك قبل قليل. هاهو مار يقف أمام النافذة يُجري إتصالاته, يبدو أن مار سيبقى معي ليومين أيضاً, دائماً أفشل في إخفاء شوقي لبيروت أمام مار, فالبيروت " من قلبي سلاماً".

سمعت بيروت في حكايات لقاءات جدّي مروان و جدتي جميلة, في حكاياتِ صمودهما, حبِهما و هذيانِهما. أسمعتني خالتي جيزيل حبها لبيروت و يبوح لي انطوان بشيء من مايخبئه في ذاكرته عن بيروت و أيام الحرب. إلا أن لقائي ببيروت لم يكن سوى بعد إنتهاء الحرب الأهلية في أواخر العام 1990 و السيطرة السورية على لبنان.
في ثاني ايام عيد الفطر, في تشرين الأول من العام 1991,بينما كنت في السابعة من العمر, قال جدّي مروان بأنه إستأجر سيارة أجرة لأخذنا غداً في زيارة الى بيروت, وقبل أن يُتم كلمته كان الجميع قد همَّ بتحضير كل شيء. في المساء لم يتمكن أنطوان من النوم و السبب أني بين الحين و الأخر, كما يقول, كنت أتحدث بصوت مرتفع عن بيروت رغم أني كنت أغط في سبات عميق. في الصباح أذكر أني لحقت بأنطوان في كل أرجاء البيت لأقتص منه بين ضحكات الجميع. كنت أريد مقاصصته لأنه حملني فجأة من السرير و جرى بي بسرعة وهو يقول أقلعت طائرة بيروت, فستيقظت فزعةً من ماحدث فجأة.  
في الطريق الى بيروت كان كل شيء يمرّ سريعاً سوى نظرات جدّي لجدتي, كانت كأنها بطول عمريهما. كان حنين خالتي لزوجها رامي يُخرسها بينما سارا كانت تحاول أن تختلس اللحظات لتطل برأسها من النافذة. أنطوان كان يَشُدُ على يدّي فجأة ليعود فيحررني, كان يسابق والدته في شوقه الى والده. 
عند مدخل بيروت إنتهت كل التكهنات لديَّ. كان الدمار قد وَسمَ كل الزوايا, لم تكن الطرقات بأحسن حال من البنايات. كانت مدينة مزدحمة بكل شيء, بالذكريات, الشهداء, الصلوات, صور الزعامات و بالجراح. ترى أرواح المهاجرون في ملامح الباقون, تسمع الأحقاد في إبتسامات الناجون. 
أختنق صوت جدّي وهو يَطلب من " الشوفير" بأن يأخذنا الى حيث كان و كانت حياته, الى كنيسة مار مخايل. وصلنا الى أول حي ماضي أو مايعرفه اللبنانيون "بمار سمعان". لم يتمكن " الشوفير" من الدخول بسيارته نظراً لكم الدمار الذي أغلق مداخل الشارع الرئيسي و لكثرة الحواجز الأمنية التي كانت متشحة بااللون الأصفر في حينها!
نزلنا سيراً على أقدام الذكريات, أذكر جيداً صوت بكاء جدّي فوق ذراعات جدتي حينما وقفنا أمام أحد البنايات التي تساوت بالأرض تماماً. كانت البناية التي إختزلت كل طفولته و شبابة. مازلت أذكر كيف أن الأبنية تدمرت بالكامل بينما كان تمثال مريم العذراء واقفاً حيث كان. بدأنا نمشي بين الممرات الضيقة حتى وصلنا الى بوابة الكنيسة التي هي أيضاً لم تسلم من أثار الرصاص. بدأت أصوات أجراس الكنيسة تدق على إستحياء. فدخل جدّي و خالتي جيزيل و أنطوان لصلاة بينما بقيت أنا و جدتي و سارا في الخارج. اخبرتني جدتي حينها أننا نقف على الخط الأخضر أو مايعرف بالخط الفاصل الذي قسم بيروت في أيام الحرب الى شرق مسيحي و غرب سني, وفي كل مرة كانت تُعيد عليَّ نفس الجملة" لو أتوحدوا ماتقاتلوا", ماأعمق تبسيطك للامور ياروح عمري.
 بعدها أخذنا نتجول في حي ماضي الذي بالفعل حتى اليوم يبدو أنه لا يستطيع الخروج من لعبة الماضي, فكيف يخرج وقد أضحى العوني حامي حماه!.
 في أخر زيارة لي لبيروت,منذ أقل من شهر, زرت أنا وصديقي مار حي ماضي, كان يعمل على ملف للأنبية التراثية, أذكر أننا شعرنا أن كل مافي لبنان قد سُرق خصوصاً و نحن نُشاهد كيف ان أعلام حزب الله قد أمتدت على كل الأنبية المجاورة لكنيسة مار مخايل فإذا بدأ سور الكنيسة توقف مَد الأعلام لتعود من جديد بمجرد أن ينتهي سور الكنيسة!. 
لا أريد أن أتذكر ذالك المشهد, الوجود الشيعي في لبنان يؤرقني كثيراً, و نظرات مار الي الأن تُشعرني أنه بدأ يشعر أني بدأت أكتب في المحظور عليَّ هذه الأيام بسبب وضعي الصحي. لكن قبل أن أقفل هذا السطر لدي جملتين, الأولى لماذا لا يمرض الساسة اللبنانيون كما يمرض الشعب اللبناني؟ و الثانية بأن اللون الأصفر إذا دُمجَ مع اللون البرتقالي ليس شرطاً ان يعطي لوناً أحمر, بل الإحتمالات اللبنانية الموثوقة تقول بأن دمج هذان اللونين ضمن إيديولوجية لبنانية تعطي اللون الأسود!!
المهم, خرجنا يومها من مار مخايل و توجهنا الى الضاحية الجنوبية باعتبار انها أكثر المناطق التي رزحت تحت القصف, أذكر أننا مررنا بحي الأكراد هناك في الرملة و أيضاً هناك أنتشرت الأعلام الصفراء. كان وضع برج البراجنة كله مُمريب. أذكر أن جدّي كان يبتسم ويقول هذا لبناني, هذا فلسطيني و هذا كردي فمتى تنفجر؟
بالفعل وضع الأكراد في لبنان سيء جداً, أظن أنه من الحكمة, كل الحكمة, هو إعادة أحياء بادرة رفيق الحريري التي قام بها في العام 1994. أعلم أن عدم تحديد مكان الولادة بالنسبة للأكراد, عند إخراج بطاقات ثبوتية لهم و منحهم الجنسية اللبنانية, يعتبره الأكراد أمراً معيباً لهم لكن يبقى أمر تجنيسهم أمراً ضرورياً كقوة سنية قد تُغير اللعبة السياسية خصوصاً في الضاحية, حكمة رفيق الحريري لا يُستهان بها!
مازلت أشعر بالخجل حتى اليوم أمام ذالك السور الكبير, أو الحصن, الذي يمتد أمام برج البراجنة, تلك الأبنية الكبيرة. ذالك الحصن لا يحمي حي الأكراد بقدر مايحاول إخفاء هذا الحي خلفه, لم يُصدق أحد الأصدقاء من أحد الدول العربية و الذي جاء لزيارة بيروت قبل عام بما رأه خلف هذا السور, قال لي" هناك حياة أخرى", و هو كذالك.


لأقف هنا.. فساعة مار تقول بأني جاوزت الوقت المسموح في الجلوس أمام شاشة جهازي.. 
سأعود غداً لو كان لي من القدر فسحة بوح...


 تصبحون كيف ماتمنيتم..

غيث الطفــولــــــة...



                                        غيث الطفــولــــــة...


استيقظت اليوم على خطوات جوليانا. جوليانا هي الممرضة التي أعتدت كل صباح ان استيقظ على ابتسامتها التي تحمل شيئاً يُشبه الأمل في النفس رغم كمِ المسكنات التي تحملها بين يديها, أما اليوم فإبتسامة جوليانا و ابتسامة السماء بزخات الربيع الهادئة في الخارج كلاهما يبعثان شيئاً مختلف في النفس.
وبعد محاولاتٍ ناجحة إقتنعت جوليانا بالسماح لي بالخروج الى خارج الغرفة, حيث يوجد في أخر الممر شرفة كبيرة تُطل من الأعلى على جامعة اوليم, الجامعة المجاورة للمصحة. مشهد الطلبة في الخارج يوحي ان ثمة غدٍ قادم ربما لاأكون موجودة فيه و ربما أكون, لذا دون ان أشعر وجدت نفسي أمام جهازي أعود للكتابة, أمامه و أمامكم..

كل ماأذكره من سنواتِ الخمس الأولى هو غفواتي بين أذرع جدي و جدتي, كل ماأختزله في ذاكرتي هو وقوفي كل صباح , كما أقف الأن, على شرفة بيتنا القديم ألوح بيديّ الى أنطوان و سارا و هما يغادران المنزل الى المدرسة. أقضي الصباح مع جدتي هناك أمام بيتنا القديم مع جاراتها وما أن تمضي كل واحدةٍ الى شأن بيتها تأخذني جدتي معها الى أسواق صيدا العتيقة فما أن يراني جدي مروان من مكتبته يتقدم ليقبل جبين جدتي و يحملني بين ذراعاته, فأبقى معه بينما تعود جدتي الى البيت. 
في مكتبة جدي كنت أحضى بكل ماأريد من كل المحال المجاورة. كان رؤوف " صبي" العم جورج " الدكنجي" يُغريني بالحلوى كي اقبل بالذهاب معه. كان رؤوف يأخذني معه الى " حلاق نسائي" بالقرب من بولفار رفيق الحريري قبالة البحر, وهناك كان يعطيني ظرف و يطلب مني ان أدخل الى المحل و أعطيه أحدى " الصبايا". إنشغالي بالحلوى يومها  و صغر سني لم يكشفان لي اني كنت " مرسول الغرام".
أذكر مما أذكر أني أفسدت فرحة الجميع في يوم تخرج أنطوان من المرحلة الإبتدائية, حيث كنا نحضر حفل نجاح انطوان و كانت المدرسة مكتظة بالأمهات فسألت جدتي عن سبب بكاء أكثر النساء من حولنا؟!. ردت جدتي بعفوية بأنه شعور عفوي تشعر به أي أم في يوم نجاح إبنها خصوصاً وان أغلب الأمهات قدِمنَّ الى صيدا هرباً من ويلات الحرب, هنَّ يفرحن بنجاة أبنائهن من الحرب و من الفشل. يومها سألت جدتي بعفويتي هذه المرة عن من سيبكي أكثر عليَّ يوم نجاحي في المرحلة الإبتدائية, هل هيَّ أم خالتي جيزيل؟ ثم نظرة اليها فقلت: " ليش ماعندون متلي أمهات كتيرة؟".
في ذالك اليوم تقول جدتي أنها لم تبكي في عمرها كما أبكيتها في ذالك اليوم, كم أتمنى أن أنزع هذه الورقة من رزنامة ذاكرتنا ياجدتي..
بعد هذه الحادثة بأسابيع قدّم اليَ انطوان ومعه حقيبة جديدة, كراسات و اقلام, وقال ليّ بأنها لي. بالفعل في هذا العام, 1990, ألتحقت بالمدرسة في الصف الأول. في اليوم الأول أوصلني الى المدرسة كلاً من جدي, جدتي, خالتي جيزيل و أنطوان, ولبما كل صيدا..
كم أذكر تفاصيل ذالك اليوم, مازلت أذكر أني في ليلتها كنّا نجتمع أمام التلفاز منشدين الى هند أبي لمع و عبدالمجيد مجذوب في مسلسل عازف الليل. اذكر جيداً ذالك المشهد الذي تُخبر فيه هند سائقها عبد المجيد أن الجميع يستغرب من علاقتهما رغم أن مابينهما هو مجرد صداقة ليس أكثر, يومها سألت جدتي هل يمكن ان يكون سائق باص المدرسة صديقي كما تفعل هند؟ فردت جدتي مبتسمة بأن عبدالمجيد سائقها لأنه يخاف عليها من اللصوص لذا هم أصدقاء, فقلت اذاً انا أريد سائق الى المدرسة ليحميني من اللصوص, جلس أنطوان على قدميه و نظر في عينيّ و بحنيته إبتسم وقال:" أتقبلينى أن أكون سائقكِ الخاص الى المدرسة", ومن ذالك اليوم لا أذكر اني ذهبت الى المدرسة أو عدت منها دون أن يرافقني أنطوان.
مازلت أذكر ان بوابة مدرسة إركي, حيث كنت أتعلم في المرحلة المتوسطة, تكتظ بالفتايات و الصبيان لترى الفتيات ذالك الشاب الجامعي الوسيم, انطوان, وهو ينتظر خروجي  بخجل بينما يحاول الصبيان ان يَلفتوا انتباه الفتيات اليهم. اعترف اني كنت أشعر بشيء لا أعلم تفسيرة في كل مرة يحتضنني فيها أنطوان أمام جموع التلاميذ, مازلت أذكر إرتباكه في كل مره يَغمرني فيها, يالجمال خجل انطوان..
 أخبرت جدتي ذات مرة بأني أفخر كثيراً عندما يعانقني أنطوان أمام المدرسة فسألتني عن السبب فقلت لها لأني أشعر بالأمان, جدتي لم تكف عن الضحك يومها..
كنت أخبر أنطوان كل شيء, كنت أخبره عن جهاد الذي يُصر في كل مرة على ان يتسلف أحد كُتبي ليعيده لي بعد أن يكتب عليه شيئاً من أغاني سامي كلارك, كنت أخبره عن مايا, الأخت الكبرى لصديقتي فرح, و التي لا تكف عن سؤالي عنه, بل و أخبرته أن مايا تُصر في كل مرة على أن تقف معي عند بوابة البناية لكي تراه اذا ماأتي لكي يَصطحبَني الى البيت. أخبرته اني أحب بالفعل أستاد العربي و بأن هذا الأمر يستفز صديقي جهاد.
عندما بدأت الدراسة في الصف الأول الإبتدائي كان أنطوان يتلقى التبريكات لتخرجة من المرحلة الإبتدائية, كان القدر يقول لنا أن المراحل لن تجمعنا و انما نحن في حياتنا كأمواجٍ لا يتبدد أحدها إلا من اجل نهوض موجٍ أخر. بعد اسبوع من دخولي المرحلة الإبتدائية و دخول أنطوان المرحلة المتوسطة, دخلت بيروت أيضاً مرحلة جديدة. ففي ذالك العام, أي في العالم 1990, أُسدل الستار على الحرب الأهلية التي عصفت بالبنان لسنوات و سنوات. 
أذكر أن جدّي في أول عيد فطر بعد الحرب من نفس العام قرر على أن نزور بيروت. كانت المرة الأولى التي أزور فيها بيروت..

عليَّ أن أقف عند هذا السطر, فجوليانا تَلوحُ لي من بعيد, يبدو أن الدكتور قد بدأ تفحص المرضى.. دعواتكم..

الأربعاء، 4 أبريل 2012

سحــابة حنــانٍ جــديـــدة..

                               سحابـة حنان جـديــدة..

بعد مرور أشهر قليلة من نفس العام أهتزت بيروت بدخول القواتِ السورية  إثر مايسمى "بحرب العلم". و نظراً لسوء الأحوال هناك أضطرت عائلة خالتي جيزيل الى القدوم للعيش في صيدا مع والدها و والدتها.
خالتي جيزيل و زوجها رامي رُزِقى بأنطوان و سارا, تقول جدتي ان انطوان حينما قدم الى صيدا كان يكبرَني بثمانِ سنوات أما سارا فكانت تكبرَني  بثلاثة عشر عاماً. خالتي جيزيل و عائلتها ذاقوا الأمرين منذ مايعرف بحرب الجبل و التهجير في العام 1983.
في يوم الاثنين من هذا العام و بينما كان الجميع ملتفين على مائدة العشاء اتصل احدهم ليُخبر العم رامي،زوج خالتي جيزيل، بأن والده مريض جداً و يريد ان يراه. غادر العم متجهاً الى قرية " عاقورة " أحدى القرى القريبة من " عمشيت" ليرى والده و لم يَعد، لقد توفي على الطريق بسبب شابٍ مخمور.
مع مرور الأيام اصبحت عائلة خالتي جزء لا يتجزء من بيت العائلة و انا اصبحت جزء لا يتجزء من هذه الروحانية.
من ذالك الوقت و الجميع أصبح جسداً واحداً أمام كل شيء. كنت الطفلة الأصغر في البيت و التي تلقى كل الحب و الرفاهية من كل أفراد هذه العائلة الحنونة. كانت جدتي تضعني على قدميّ انطوان و تخبره بأن لا يضع يَدَه على رأسي و انما تحت رأسي، تخبره بأن لا يحني ظهره عندما يحملني و بأن لا يرفع صوته اذا اراد ان يجيب على صديقه سام اذا مانادى عليه من الشارع. كانت جدتي تذهب مع خالتي جيزيل و جدّي الى "عاقورة" لزيارة والدة العم رامي لتتركني مطمئنة مع انطوان و سارا و عندما تعود يقف أمامها انطوان ذو السبع سنوات ليخبرها كيف أمضى الوقت و هو يُلاعبني و يُغني لي..
تقول جدتي انني عندما خطوت خطوتي الأولى كنت أمسك بأكفِ انطوان الصغيرة و بأن أول إسمٍ لفظته من أسماء العائلة كان" أن" اي انطوان. جدتي تقول ان انطوان كان يقرأ عليّ الترانيم رغم انه يعلم اني سنية الديانة بل و كان يغني لي" جاء العيد" في كل ليلة كي اغفو. عندما بلغت عامي الخامس كان انطوان يذهب الى الكنيسة مع الخالة جيزيل نهار الأحد, أما انا فلا أكف بكاءً راغبةً في مرافقتهما, تقول خالتي جيزيل اننا ماان نخطو خطوتين من البيت يقف انطوان و يخلع قبعته ليعتذر لأنه لم يجلب الشمع من أجل القداس ثم يقول انتظريني دقائق سأجلب الشمع من البيت و أتي اليكِ. تقول خالتي انتظر لمدة في الشارع واذا به يأتي من البيت و بيده الشمع و قد حملكِ على أكتافه و جدتي تنادي اليه من شرفة المنزل, حينها تُطل الجارة أم فادي لتشجع انطوان على الإفلات من الجدة, فإذا ماوصلنا الى الكنيسة أخذ يُخبر الراهبات من جديد عني و كيف انه أختطفني من جدتي, فما أن يبدأ القداس أخذني الى خِضنه لأغفو, و إذا ماعاد الى البيت اخبر الجدة بما حصل و بأنه لم يرتكب إثماً لأني كنت غافية ولم أسمع الترانيم.


بدأ التعب يتسلل اليَّ، اعتذر..
سأقف هنا و سأعود غداً لأكمل سرد قدري... 

النــــــواة الأولـــــــــــــى...


                                    النـــواة الأولـــــى..
 
على هذا السطر في هذا "العالم الافتراضي" سأبوح "بحياتي الحقيقية" مكتوبةً، تماماً كما كان قدومي الى هذا "العالم الحقيقي" نتيجةَ لكتابةٍ عبثيةٍ لأشخاصٍ "افتراضيين" كانوا في حياتي.
احياناً كثيرة نحن لا نُقرر البداية، ثمة اخرون يبدؤنك قبل ان تبدأ، او لنقل يخطئون و انت ثمرة هذا الخطأ، و لأبدأ كتابة حياتي بإنصاف عليَّ ان اتحدث عن اولئك الذين أصابوا فأحسنوا حصاد هذه الأخطاء بقدر حديثي عن أوليك الذين عبثوا ببذرتي الأولى!
سأبدأ بقلب حياتي النابض،جدتي جميلة. كانت جدتي فتاة تنتمي لعائلة محافظة كمعظم العائلات الأرستقراطية في ذالك الزمان، تقضي جُلَّ وقتها في القراءة و ملاحقة الأخبار على المذياع و تسهم في توزيع المنشورات في ايام الحرب. في يوم من الأيام هذه الشابة اخذها القدر الى بيروت لتعلق تحت اطلاق الرصاص في شِقِها الشرقي و هناك وقعت في غرام جدّي. كان جدي "مروان" شاباً مسيحياً يحمل بندقيته على كتفٍ و على الأخر يحمل وطنه.هذا الشاب تعلق بهذه الفتاة منذ الوهلة الأولى و كان مستعداً هو وإياها لمقابلة رفض عائلاتهما لزواجِهما كإستعداده لتلقي الرصاص، فتح صدره للرصاص من اجل الوطن و شرّع قلبه للجراح من اجل الحب. وأمام الأمر الواقع تُوضع النهايات قبل أوآنها، وهذا مافعلاه جدي و جدتي. تزوجا و استقرا في صيدا فوهبَهما الرب شاباً و ابنتان, خالي غسان، خالتي جيزيل و ريما. 
تربى الجميع تحت سقف الحب، الحرية و الإيمان بمطلقه في بيت صيداوي عريق يتوسط أسواق صيدا العتيقة, تطل نافذة " عليته" على حياة الأمواج, وفي أوائل الليل تسمع أغاني المحبون تنبعث من مقاهي الحي القديم بينما يتنفس صباحه مع صوت فيروز الذي ينبعث كل صباح من على " عربة " العم محمود و الذي يتجول منادياً " جرايد, أخبار, شوفوا شو صار".
كَبُرت الأديان تحت سقف هذا البيت بإنسجام تلقائي فعُمّرت القلوب بما يحمي العقول. و بعد ان ازهرت شجرة الليمون الكبيرة المقابلة للبيت العتيق تزوج خالي غسان من طائفته السنية بينما خالتي جيزيل فتزوجة برامي من الطائفة المسيحية ليترَسّخ بذالك مبدأ العائلة الأوحد، "الحب نواة الإيمان أياً يكن" تماماً كما كانت تُردد جدتي. أما البنت الصغرى ريما فقد كانت مختلفة في كل شيء, كل شيء.
ريما كانت شابة جميلة، تُحَمّل كل صباح أمواج البحر احلامها، امالها و طموحاتها لذا اتجهت للعمل كمضيفة في الخطوط الجوية اللبنانية. و في احد الأيام وقفت ريما بعد وجبة العشاء لتُبلغ الجميع عن قرارها الذي اتخذته ولن تقبل فيه اي جدال: "سأسافر للعمل في الخطوط الجوية السعودية".  امام هذه الجملة صمت كل شيء ماعدا اصوات خطوات ريما ذهاباً اياباً تُلملم اغراضها و تَحزمُ حقائبها. 
غادرت ريما لبنان الى الرياض لتعمل في الخطوط لمدة ثلاث سنوات زارت فيها لبنان لمرتين فقط. و في السنة الرابعة قدمت بصحبة ورقة تقول انها تزوجت برجلٍ سعودي يعمل معها في الخطوط ايضاً. كانت جدتي تتسائل عن سبب عودة الزوجة دون الزوج فكانت الكارثة ان الزواج لم يلقى مباركة من أهل الزوج!
الزواج في صيدا حدث تتراقص معه امواج البحر مع كل ضربة قدم من اقدام "الدبيكة"، تقام الليالي الملاح و ينطرب القاصي و الداني بزواج ابنة الضيعة، فكيف اذا كانت العروس ابنة الجدة جميلة! إلا ان الأفراح لم تُعمّر في الديار و اكتفت الجدة ببث الخبر على استحياء و السبب ليس خيار الزواج من جنسية اخرى و انما عدم مباركة الزواج من الجميع حتى بعد وقوعه!
غادرت ريما لبنان ولم تعود الى بعد ان اتمت عامها السابع. لم تعد هالمرة لإحتضان اسرتها و انما ليحتضنوا ماتحمله في أحشائها! 
نعم، عادت ريما لأنها حامل في شهرها السابع وترغب في ان تلد بين يديّ والدتها. و في ٢٠ فبراير تشرين الثاني1984, اطلقت طفلة صغيرة صرخة في وجه الحياة، صرخة ابتهال بأن لا تقسو عليها الحياة كقسوة والدها الذي لم يكن من بين المحتضنين لها في تلك الليلة!
بقيت هذه الطفلة دون اسم لأسبوعين في المستشفى نتيجة ضعف بنيتها، يبدو انها استعجلت القدوم للحياة ظناً منها ان القدوم المبكر يعنى اهتمامٌ مفرط!. بعد اسبوعين، بدأت الجدة جميلة و الجد مروان يسألان ريما" والدة الطفلة" عن والد هذه الطفلة و لماذا لا يأتي ليرى ابنته البكر، وفي كل مرة كانت ريما تبحث عن مخرج.
بعد شهر من قدوم هذه الطفلة، تفاجئ الجميع برجلٍ يطلب ان يتحدث الى ريما. كان هذا الرجل رسول والد الطفلة الى والدتها يحمل توكيلاً يتمكن بمقتضاه من تسجيل الطفلة في السجلات المدنية بإسم "شوق" كما يرغب والدها!.
ازدادت حيرة الجدة جميلة و الجد مروان مما يحدث. كان الجميع يحاول تكرار هذا الإسم علّ اللسان يعتاد عليه، لم يكن و مازال اسم شوق غير دارج في لبنان. قال جبران تويني مرة لشوق مُعزياً اياها في اسمها بأنه يكفيها ان اسمها لا يُضفي عليها صبغة سياسية او طائفية رُغماً عنها!
المهم، في نهاية ذالك اليوم، عادت ريما و بيدِها شهادة تحمل اسم الطفلة و في اليد الأخرى تذكرة. ريما اُجبرت تحت اتفاق مبرم بينها و بين زوجها على ان تترك شوق في لبنان فترة من الزمان، ليست اكثر من شهر، حيث تعود الى السعودية لمعاودة الكرة مع العائلة علّها تبارك هذا الزواج. لم تقتنع جدتي بهذا الأمر الا ان ريما ظلت تردد ان العائلة سيزداد رفضها اذا علمت ان ثمة طفلة في الموضوع و ان هذا قرار الزوج و الا فالطلاق هو الحل و ريما تُجن لو ابتعدت عن حُبِها!
في 2 يناير كانون الثاني من العام 1985 غادرت ريما لبنان على ان تعود بعد شهر مع والد الطفلة لأخذها الى السعودية و العيش معاً تحت سقف واحد ككل الأسر. إلا ان هذا الامر ذهب أدراج الريح لسنوات و سنوات.
شوق عاشت في بيت جدتها و جدِّها في صيدا، انا شوق، انا تلك الطفلة.
كانت جدتي امي الحقيقية، امي بالفطرة، كانت جدتي تنسى ان تنام، ان تأكل وان ترتاح بسبب حِرصِها على ان أأكل, انام و ارتاح. كانت تضغني على قدميها كل الوقت و كأنها تحاول ان تبرر لي تصرف ابنتها. لم أكن افقه شيئاً بعد، الا ان جدتي تخبرني دائماً اني اذا سمعت اغنية لسلوى القطريب توقفت عن البكاء. تقول جدتي انها كانت تضعني على قدميها و تتوارى خلف اسطر الكتاب الذي بين يديها لساعات و ساعات و رغم ذالك ابقى صامتة و دون حراك. كنت الطفلة المدللة التي تتنقل من حضن الجدة الى حضن الجد في بيت يسكنه الهدوء و الروحانية. كانت جدتي تُفاخر فيني بين قريناتها، تقول لي جدتي انها كانت تَعمَد الى أخذي معها في زيارتها لجاراتها كل صباح لكي يزداد الناس فيّ ارتباطاً، كانت تخشى جدتي عليّ من الوحدة و تعلم ان جاراتها لن يتخلو عن ابنتهم شوق اذا ماأصاب الجد و الجدة مكروه. جدتي و جدّي أول هدايا قدري...

الأحد، 1 أبريل 2012

نهــايــة المطـــاف...

نهــايــة المطـــاف...
وهاأنا أصل الى المانيا من جديد في رحلةٍ علاجية. جئت الى هنا لأول مرة في 2002, عندما كنت أبلغ من العمر واحد و عشرون عاماً, لزيارة والدي و عاودت الكرة في العام الماضي لعلاج والدتي، كان الإثنين يعانون من السرطان، والدي في الدم بينما امي في الكبد.في كل مرة كنت اعود منها حاملةً نعش احدهما على كتفيَّ،ضائعة و متهالكة. اليوم انا ممدة في ذات المصحة لكن مع اختلاف الممر،الطابق و المسميات.
لا اخشى عادةً من النهايات رغم اني ارتبك كثيراً أمام البدايات. ربما لا تتشابه النهايات كثيراً رغم لحظات التذبذب التي تعتري البدايات.
اليوم بجواري  ايضاً اشخاص لم يَهبَهُم لي رحم امرأة وانما هم هدايا القدر، يسلب منك القدر احياناً من يرى ان هناك من هم احق بكَ واقدر على إحكام وقفتكَ امام لعبة القدر. 
 منذ الأزل وانا اُروض نفسي على ان تبقى متماسكة قدر الإمكان، ليس من أجلي فحسب و انما من اجل ماحولي اكثر من مابداخلي. انا اعيش في عالم شمعي وانا فتيله، ان اشتعلت سيذوب كل شي من حولي، وكيف أذيب من تماسكوا رغم كل شي ليبقيني بين أحضانه يافعةً شامخةً؟!
حينما اسمع على الطرف الأخر من هاتفي صوت أجهله اعلم ان ثمة عرق دم يجمعنا، و حينما يسمعني صوت على الطرف الأخر من هاتفه اعلم ان ثمة ثورة دم ستُوحدنا، تنتصر لي الثورة و يتخاذل معي العرق! 
اُعلنُها، انا احب قدري، بل و اعشقه، اعشق اصدقائي، هدايا قدري، اكثر من كل شيء، لا أحتمل خوفهم، قلقهم او ارتباكهم عليَّ، لا ادعي القوة امامهم بل ألبسها عنوةً احتراماً لوفائهم. يالقوتي و صلابتي و يالضجيج تحطمي عندما ألمح أحد أصدقائي يُخبئ مكنون مقلاته عني. 
في الليلة الأخيرة في بيروت ثار في وجهي صديقي سام وأنا أرتب أغراضي, سألته أأخذ الوشاح الأسود ام الكحلي يبدو أجمل؟ كنت أظن اني كلما ادعيت القوة و استسهلت ماأنا مُقدمت عليه كلما قَلَّ خوف أصدقائي عليَّ. سام ثار في وجهي حينها باكياً صارخاً بصوت عالي" ماتخافي كلنا حدك, بعدك طفلتنا"..
أعلم انكم معي و بأنكم بين أجزائي، في امسي، يومي و غدي، انتم قوتي..لا ادعي انا القوة وانما ادعي انكم انتم أنا، فإن ضعفت انا بقيتم انتم اقوياء لذا ابدو قوية، لتبقوا اقوياء لتشدوا عزيمتي، ولا تُخفوا عني مكنون اعينكم فهطلها يسقي قحط جسدي وان كان غيث المقل مالحاً. واعتذر عن موجات غضبي أمام خوفكم علي..بالفعل اعتذر..
يقول لي الطبيب ان بداخلي مايُربكني و يستثير افكاري ولا اُفرغها، ماضٍ بداخلي يبحث عن متنفس، لذا طلب مني ان اكتب! يقول فيليب, طبيبي, أن تمدد الأوعية الذي أعاني منه يكون بسبب إضطرابات في ضغط الدم و هذا بسبب الجهد المتواصل و قلة النوم و انشغال العقل بأفكار بالقدر الذي يحاول هذا العقل مقاومتها. أعلم ان كل مانُقاومه يكبر فينا, لكن لا أعتقد اني من أولئك الذين يخشون التجرد أمام السطور. نعم أنا أرتبك أمام الماضي لكني لا أخشاه.
خياري الوحيد كما يقول مار ان أجرب, أن أكتب..
أرتبك من تلك اللحظة التي أكتبني فيها, سأحاول أن أكتب حطامي,  سأجرح من جرحني، سأنصف من انصفني، سأشفي من طببني و سأسمع من أسمعني..سأجرد الماضي، ليس إلا لأني أفخر بكل تفاصيل حياتي، اعتز بدهاليز ممراتي، من صيدا وصولاً الى بيروت, انسكاباً في كسروان لملمةً في عواصم لا اعرفها و انتهاء حبيسةً بين هذه الحيطان!
ببساطة, سأكتب ماضٍ مازال يمر بين رياح أضلعي....