أفتراءات الحقائق..
وصلت الرياض و
هناك التقيت بعائلة بدت لي منذ اللقاء الأول انها مستعدة لكل شيء مقابل
سعادة ابنها. التقيت بوالدي الذي لم يكن قادر على الحركة بسبب مرضه. منذ
ان دخلت عليه في غرفته لم يتوقف عن البكاء. بدا منهاراً جداً. كان يتوسل
السماح. لا ابالغ ان قلت اني اشفقت عليه. فجأة وجدت الجميع يغادر الغرفة
بناءً لرغبة والدي. طلب مني ان اقترب اليه. قال لي انه سيخبرني الحقيقة
كما هي.
قال لي انه تزوج والدتي دون
علم ذويه. فوالده متسلط و يقيس كل الأمور من منظار مادي بحت. اخبرني انه
عندما قدمت الى الحياة ظن هو و والدتي ان موقف العائلة سيتغير و ستصفو
الأنفس لكن للأسف. والده عندما علم بالأمر خيّر والدي بين الإنفصال عن
والدتي او الإنفصال عن الثروة و الإرث. حاول والدي، كما يقول، ان يتحمل
تبعات قراره و اختار البقاء مع والدتي الا ان المشاكل بدأت تهطل عليهما
فوالده تدخل بنفوذه في عمل والدتي فأُوقفت والدتي عن العمل. بدأت الأمور
تزداد سوءً بسبب اصرار والدتي على العمل فصطدمت مع جدي اكثر من مرة لتفقد
والدتي ذات مرة صوابها، كما يقول والدي، لتخبر جدي بأنها انجبت ابنة تحمل
اسم العائلة. يقول والدي ان والده لم يحتمل الأمر فأصيب بجلطة و تدهورت
حالته. شعر والدي، كما يقول، بتأنيب الضمير فطلق والدتي امتثالاً لرغبة
والده الذي، كما يقول، كان على وشك الموت!. اما والدتي فقال انه كان يظن
انها غادرت الرياض لكنه علم بعد شهر بأنها مازالت في الرياض و تحاول
العودة للعمل الا ان الموت كان من نصيبها اثر حادث سير.
لم
اتمكن من تصديق ذالك الكم من الحقائق. لم استطع ان ادير ظهري لشخص طريح
الفراش بدا لي ،كما ظننت في وقتها، انه وقع ضحية طاعته لوالده. طلب مني ان
ابقى بجواره. توسل اليّ ان امضي معه ماتبقى من ايامه. وجدته ينثر امامي
صور جمعته بوالدتي. امطر والدتي بوبلٍ من العشق و الشوق فخلتهما قيس و
ليلى. كانت عاطفتي اكبر من تعقلي. كان وضعه صعب.. بالفعل كان صعب. كنت ارى
رجلاً شارف على الخمسين يحتضر امامي ألماً و شوقاً لمحبوبته ، لوالدتي،
التي حُرمَ منها بسبب سطوة والده.
بعد
اربع ساعات امضيناها سوياً بدأ يفقد قدرته على التماسك. بدأ يترنح امامي.
وقع ارضاً فتسمرت في مكاني ظناً مني ان الأمر انتهى. صرخت فالتف الجميع
حولي لأجد نفسي اقف امام غرفة العناية المشددة ننتظر الحكيم. خرج الحكيم و
قال ان الأمر ازداد سوءً. والده لم يتمكن من تقبل الأمر و بدأت التحضيرات
لسفر للخارج. في وقتها كنت لا اطأ الأرض و لا اطول السماء. كنت لا امسكُ
الأفق رغم اني ماضيةٌ اليه لا محالة. لا اعلم شيئاً عن مصيري، هل اغادر
الى بيروت ام ابقى حيث يكون ام امضي معه حيث سيكون؟
في
المساء، ربما كانت العاشرة مساءً، اقترب اليّ عمي عادل فسألني عن جوازي و
هل سبق لي ان سافرت الى المانيا فأخبرته بالنفي و سألت عن سبب طلب جوازي!.
رد بتعجب:" ولو اكيد لتروحي مع بيك". شعرت ان هذا هو الواجب، مااقسى
الزامك بالواجب العقلي اذا تعارض مع اللاواجب القلبي.
تحدثت
مع خالي غسان الذي اكد لي مرة اخرى اني بأمكاني الرفض. دخل جدي الى الغرفة
و طلب التحدث اليّ على انفراد. لم ارى في ملامحه تلك السطوة التي حاول
والدي اقناعي بها! بدا لي اب مستعد ان يخسر حياته من اجل سعادة ابنه. كان
على وشك ان يقبل يديَّ كي اقبل بمرافقة ابنه!.كان رجلاً مسن اثقله تقدم
العمر و مجابهة الحياة و امراً يحاول اخفائه عني يتعلق بحقيقة والدي و
والدتي.
ضعت كثيراً، ببساطة لم اجد
نفسي في تلك الليلة. كان على الصبية التي لم تتجاوز التاسعة عشر من العمر
ان تأخذ قرار مصيري لأول مرة في حياتها. عَودوا ذواتكم و من تحبون على
التدخل في صنع القرار مهما تكن صغيرة و في هذا انا ممتنة لعائلتي. فلولا
قوة جدتي التي غرستها بداخلي لكنت فقدت صوابي و لأدرت ظهري لكل ماحدث و
هربت من خوفي.
اخذت قراري و بقيت
بجوار والدي لمدة اسبوع و نصف و بعدها غادرت الى المانيا برفقة والدي و
والده، جدي، و عمي. اما خالي غسان فغادر الى بيروت. لم يطول بقائُنا هناك
فقد انهك المرض جسد والدي كثيراً. في كل مساء كان والدي يُحدثني عن والدتي
و لقائه معها و ايامهم سوياً. كان يحاول ان يُبرر لي قراره بالإبتعاد عني.
بعد اسبوع تعطل عمل الكلى لدى والدي فدخل في غيبوبة لمدة اربعة ليالي
متتالية. استفاق في الساعة الثانية صباحاً من يوم الأحد الموافق ٢٨ ابريل
فبدأ بالتنهد و اخذ يردد:" امك مابتحبك اكثر مني، امك هي الي رفضت انو تجي
ع السعودية، امك بتحب شغله اكثر من اي شيء". ثم غاب صوته بعد ان صعدت روحه
الى بارئها. غاب والدي عن الحياة بعد ان تعرفت عليه و تعلقت بطيبته و بحبه
لوالدتي رغم ان حديثه عنها لم يتجاوز الأسبوع بل معرفتي به لم تبلغ الشهر
حتى. لكن عندما قرر الرب ان يخطف روح والدي مني حقاً كان الوداع ليس كما
اللقاء، حتى رأي والدي بوالدتي تبدد و لحبها تنكر و من خوفها عليّ تبرأ!
عدت
الى الرياض و بعد ثلاثة ايام قررت العودة الى بيروت. لا انكر ابداً ان جدي
كان طيب الخلق معي و جدتي ايضاً. كنت محط تقدير من الجميع. كان الجميع
يثنون على صنيعي. توسل جدي ان ابقى على تواصل معه. احببته كثيراً رغم كل
ماحدثني والدي عنه. فرجل مسنٌّ في العقد التاسع من العمر لا يوحي ابداً
مظهره بالقسوة بل على العكس. كان حدسي يقول لي ان ثمة امور اهم بكثير لم
يخبرني اياها والدي، اهم من قسوة والده التي لم تقنعني اصلاً. و في ليلة
الأخيرة استأذنت الدخول اليه. دخلت و جلست بجواره و قلت له:" ان كنت تحب
ابنك فأخبرني حقيقة ماحدث". دمعة عينه فقال:" تزوجوا دون علموا و منذ ان
حملت بكِ والدتك زادت المشاكل بينهما بسبب العمل و كثرت السفر نظراً
لعملهما المشترك في الخطوط. هربت والدتكِ الى لبنان عندما علمت بأمر
حملها. جدتكَ كانت تصر على والدكِ بأن يتزوج من ابنة اختها. والدكِ ضعف
امام رغبة والدته فتزوج دون علم والدتك و دون علمنا بأمر زواجه. بعد قدومك
يبدو ان الأمور هدأت بين والديكِ فقرروا مصارحتنا بالامر. صُدمنا من الخبر
و غضبة جدتكِ من اجل ابنة اختها و انا صدمت من زواجه من جنسية اخرى و لانه
اخفى الأمر هذا عدا عن وجود طفلة. غضبت منه و طردته من البيت. ساءت
الأوضاع من جديد بين والديكِ خصوصاً بعدما علمت والدتكِ من والدكِ بأمر
زواجه. اصرت والدتكِ على ان يطلق المرأة الأخرى و بأن يغادرا الى قطر حيث
كانا يتداولا امر عقد جديد من الخطوط هناك. لم يقبل والدكِ بأمر الطلاق و
لا بأمر العمل. زادت الأمور تعقيداً حتى وقع الطلاق بينهما بعد سنتان من
قدومكِ". هنا لم يتمالك جدي نفسه فنهار بالبكاء و بالتوسل اليّ بالصفح و
السماح. كان يردد:" ابني كان ضعيف الشخصية امام كل شيء، امام حب والدتكِ و
حب والدته و رضاء والده. كان ضعيف الشخصية امام مواجهة المجتمع الذي بدأ
بتناقل الخبر فهجر العمل و اغلق الباب على نفسه". سألته عن والدتي فرد:"
لا نعلم عنها شيئاً". قلت له ان والدي اخبرني انها توفت فرد:" و نحنا
سمعنا نفس الكلام". بدأت اتجول في الغرفة، ذهاباً اياباً. حاولت استشفاف
ماحدث. اب ضعيف الشخصية و ام تحاول ان تنتقم لكرامتها. جدّ كان ينتصر
لمبدأ من مبادئه وهو عدم الإرتباط بجنسية اخرى و جده تبحث عن الزوجة
المناسبة من وجهة نظرها لإبنها البكر. وجدت الجميع كان يتصرف ليدافع عن
حقوقه بالطريقة التي يراها الإنسب. لم اجد في حسابات احدهم مكاناً لي. لم
اجد نفسي سوى في حساب عائلتي الصيداوية و لأنصف الحقيقة لمست في اعتذارات
جدّي ندم شديد لم اجده في اتهامات والدي و محاولته التنصل من المسؤولية و
لا في تهرب والدتي من تحمل قراراتها.
حاولت ان لا اُحمل هذا الطاعن في السن اكثر مما يحتمل. قبلت رأسه و أبديت كل الصفح و طويت الصفحة.
عدت
الى بيروت فوجدت الجميع في انتظاري. و بعد اخبار من حولي بما حصل شعرت ان
كابوساً قد انتهى من حياتي. الا اني لم أنهار ولم التفت الى انتشال
مابداخلي بعد. كنت اهرب عن مواجهة حقيقتي الجديدة. ان والدي الذي حرمت منه
كان على قيد الحياة لكنه ابتعد عني لسبب مازلت لا اقتنع به!
مرت
الأيام و السنين، كنت اتوارى خلف اي شيء عندما تهب نسائم هذا الموضوع. اما
جدي فظل يتواصل معي مرة كل اسبوع. كان يهاتفني من الرياض و يتطمن عليّ و
على عائلتي. في كل مرة كان يعود لتشكري على مافعلته مع والدي. توطدت
علاقتي به كثيراً حتى اني دعيته لزيارة لبنان في ٢٠٠٤ فقدم و تعرف على
جدتي و جدي و قضى اسبوع معي في صيدا. كانت حنيته معي كافيه لعدم اشعاره
بتحمل تبعات قرار الأخرين. عندما مرض في اواخر ٢٠١٠ قدمت لزيارته في
الرياض. عندما توفى حزنت عليه كثيراً.
مضت
عجلة الحياة لتعود من جديد الى عرقلتي. فبعد عام ونصف تقريباً عادت صديقة
والدتي تلك التي زارتنا عندما كنا عائدون من بيروت بعد نهاية الحرب
الأهلية. ففجأة وفي صباح يوم الأحد حيث كان انطوان و خالتي جيزيل في
الكنيسة و انا في البيت مع جدتي حيث عطلة نهاية الأسبوع، في ذالك الصباح
قَدِمت تلك المرأة فرتبكت جدتي كثيراً. جلست في غرفة الإستقبال و بدت
بالبكاء. سألتها عن السبب فقالت:" بيك اتوفى؟". فقلت لها:" من زمان من شي
سنة!". فقالت:"وشو خبرك عني اكيد بيكون رمى الحمل عليّ؟". حاولت التماسك.
لم اتحرك من مكاني حتى على صوت جدتي وهو تردد:" اطلعي من بيتي، ارحموا
هالصبية، اتركوا تعيش". لم تكن هذه المرأة التي ضليت لتسعة عشر عاماً
انعتها بخالتي كذالك. فجأة اصبحت تلك المرأة هي والدتي. لم تعد والدتي
متوفية كما اعتدت ان اردد. فجأة وجدتها تجلس امامي و تخبرني بما لم يخبرني
اياه والدي.
اخبرتني ان والدي بعد ان
علم بحملها اصر عليها ان تتخلى عن مولودها. رفضت و قدمت لبيروت و بعد
ولادتي لجأت لأهله لتستنجد بهم. اهل والدي و جدّي خاصة انصفها و تدخل
فأقنع والدي بالإعتراف بمولودته. كان شرط والدي هو ان تبقى المولودة في
لبنان او ان تستقيل والدتي من العمل كي تتفرغ لمولودتها. والدتي رفضت
التخلي لأنها كانت تخشى على مستقبلها خصوصاً وان والدي توقف عن العمل.
كانت تررد :" انا مسؤلة عن صبية بالأخير". فثار جنوني في حينها و
صارحتها:" انتي بحياتك مادفعتي ليرة عليّ فما تربحيني جميلة". أكدت جدتي
ذالك الأمر فقد كان مصروفي اما من جدّي او من ماأكسبه من العم ابو وسام
مقابل عملي في المكتبة او من انطوان او من مساعدات من جبران الذي كان
يعطيني مالاً مقابل ترجمة بعض النصوص له من باب المساعدة لي. كان جبوان
تويني خير مساند لي. هذه حقيقة فأنا مدينة له طيلة حياتي. حاولت ان لا
اكترث لكل مايقال. اخبرتها اني لن اترك حياتي ففاجأتني:" لا انا مابدي
تكركبي حياتك كرمالي. و لا انا راح غير حياتي. انا مجوزه و عندي عيلة من
صبي و بنتين. الك اخ و اختين بيجننوا". و قبل ان تبدأ بسرد تفاصيل حياتها
سألتها:" شو بدك مني؟" فقالت:" بدي تعرفي انو الك ام و انو بيك ظلمني".
عندها شعرت بخيبة امل لم اشعر بها من قبل. قبلت جبين جدتي، اخذت معطفي و
قلت لها:" انتي ع راسي و امتين مابدك تشوفيني انا هون". خرجت و لم اعد الى
البيت الا في المساء. توجهت يومها الى مااقتادتني اليه قدماي. كنت اجهل
الوجهة، كنت ببساطة لا اعلم من انا! اغضبني برود والدتي خصوصاً و انا
اتذكر حرارة وداع جدّي، والد ابي، لي قبل عام و نصف. لم يكن لقائي بوالدتي
مشبع بعاطفة الأمومة. لم تكن والدتي على قدر من المسؤولية وهي تسرد ماحصل.
كانت تحاول تبرير موقفها اكثر من محاولتها اعتذارها عن موقفها. لا احب
اولئك الذين يبرروا لأنفسهم بحثاً عن ارضاء ذواتهم و ليس تطهيراً لذواتهم.
الإفصاح عن الخطأ لا يعني الإعتراف به و لا يعني طلب الصفح. انا لا اغفر
لأولئك الذين يظنون ان علو الصوت يعني إلزامي بتصديقهم و لا اولئك الذين
يظنون ان قذف المسؤوليات يعني إلزامي بتبرأت ساحاتهم.
عدت
فوجدت الجميع بإنتظاري. تقدم نحوي انطوان على عجل فغمرني. كانت جدتي قد
اخبرت الجميع بما حصل. لا اعلم لماذا لم ابكى في وفتها رغم احتضان انطوان
لي!
ابتسمت و قلت للجميع:" بترجاكون
ساعدوني انسى الي صار، ماحدا يحكي بالموضوع". توجهت الى غرفة انطوان و
اخذت حبة منوم. كانت المرة الأولى التي احتاج فيها الى النوم رغم اني كنت
قليلة النوم بسبب سعادتي الغامرة التي لا تكفيها الأربعة و العشرون ساعة
في تلك الأيام.
في الصباح كنت و كان
الجميع كأننا حديثي الولادة. تناسينا ماصار. ولم تعد والدتي لزيارتنا سوى
بعد وفاة جدّي في ٢٠٠٤ لتعود بعد وفاة انطوان في ٢٠٠٦.كانت تأتي لزيارة
بيروت مرة كل سنة الا ان علاقتي بها ظلت في الإطار الجدّي الجاف. حتى
علاقتي بإخوتي من امي ظلت في اطار الإحترام المتبادل نظراً لما افرزته
علاقتي بوالدتي و نظراً لفارق العمر بيننا. الا ان علاقتي بها توطدت عندما
مرضت في العام الماضي فرافقتها للعلاج حتى توفت.
الحياة
عقد من لألئ، وقوع احدها لايعني ان العقد غير صالح للإستعمال فأحياناً
كثرة الأشياء تُقلل من رونقها. و كذالك كانت حياتي. لربما خسرت والدتي و
والدي لكني ربحت جدتي، جدّي مروان، جدّي لأبي، انطوان، خالتي جيزيل و سارا
هذا عدا عن اصدقائي فمنهم و بهم كانت حياتي..