الجمعة، 20 أبريل 2012

أفتراءات الحقائق..

                                 أفتراءات الحقائق..
 
وصلت الرياض و هناك التقيت بعائلة بدت لي منذ اللقاء الأول انها مستعدة لكل شيء مقابل سعادة ابنها. التقيت بوالدي الذي لم يكن قادر على الحركة بسبب مرضه. منذ ان دخلت عليه في غرفته لم يتوقف عن البكاء. بدا منهاراً جداً. كان يتوسل السماح. لا ابالغ ان قلت اني اشفقت عليه. فجأة وجدت الجميع يغادر الغرفة بناءً لرغبة والدي. طلب مني ان اقترب اليه. قال لي انه سيخبرني الحقيقة كما هي. 
قال لي انه تزوج والدتي دون علم ذويه. فوالده متسلط و يقيس كل الأمور من منظار مادي بحت. اخبرني انه عندما قدمت الى الحياة ظن هو و والدتي ان موقف العائلة سيتغير و ستصفو الأنفس لكن للأسف. والده عندما علم بالأمر خيّر والدي بين الإنفصال عن والدتي او الإنفصال عن الثروة و الإرث. حاول والدي، كما يقول، ان يتحمل تبعات قراره و اختار البقاء مع والدتي الا ان المشاكل بدأت تهطل عليهما فوالده تدخل بنفوذه في عمل والدتي فأُوقفت والدتي عن العمل. بدأت الأمور تزداد سوءً بسبب اصرار والدتي على العمل فصطدمت مع جدي اكثر من مرة لتفقد والدتي ذات مرة صوابها، كما يقول والدي، لتخبر جدي بأنها انجبت ابنة تحمل اسم العائلة. يقول والدي ان والده لم يحتمل الأمر فأصيب بجلطة و تدهورت حالته. شعر والدي، كما يقول، بتأنيب الضمير فطلق والدتي امتثالاً لرغبة والده الذي، كما يقول، كان على وشك الموت!. اما والدتي فقال انه كان يظن انها غادرت الرياض لكنه علم بعد شهر بأنها مازالت في الرياض و تحاول العودة للعمل الا ان الموت كان من نصيبها اثر حادث سير. 
لم اتمكن من تصديق ذالك الكم من الحقائق. لم استطع ان ادير ظهري لشخص طريح الفراش بدا لي ،كما ظننت في وقتها، انه وقع ضحية طاعته لوالده. طلب مني ان ابقى بجواره. توسل اليّ ان امضي معه ماتبقى من ايامه. وجدته ينثر امامي صور جمعته بوالدتي. امطر والدتي بوبلٍ من العشق و الشوق فخلتهما قيس و ليلى. كانت عاطفتي اكبر من تعقلي. كان وضعه صعب.. بالفعل كان صعب. كنت ارى رجلاً شارف على الخمسين يحتضر امامي ألماً و شوقاً لمحبوبته ، لوالدتي، التي حُرمَ منها بسبب سطوة والده. 
بعد اربع ساعات امضيناها سوياً بدأ يفقد قدرته على التماسك. بدأ يترنح امامي. وقع ارضاً فتسمرت في مكاني ظناً مني ان الأمر انتهى. صرخت فالتف الجميع حولي لأجد نفسي اقف امام غرفة العناية المشددة ننتظر الحكيم. خرج الحكيم و قال ان الأمر ازداد سوءً. والده لم يتمكن من تقبل الأمر و بدأت التحضيرات لسفر للخارج. في وقتها كنت لا اطأ الأرض و لا اطول السماء. كنت لا امسكُ الأفق رغم اني ماضيةٌ اليه لا محالة. لا اعلم شيئاً عن مصيري، هل اغادر الى بيروت ام ابقى حيث يكون ام امضي معه حيث سيكون؟
في المساء، ربما كانت العاشرة مساءً، اقترب اليّ عمي عادل فسألني عن جوازي و هل سبق لي ان سافرت الى المانيا فأخبرته بالنفي و سألت عن سبب طلب جوازي!. رد بتعجب:" ولو اكيد لتروحي مع بيك". شعرت ان هذا هو الواجب، مااقسى الزامك بالواجب العقلي اذا تعارض مع اللاواجب القلبي. 
تحدثت مع خالي غسان الذي اكد لي مرة اخرى اني بأمكاني الرفض. دخل جدي الى الغرفة و طلب التحدث اليّ على انفراد. لم ارى في ملامحه تلك السطوة التي حاول والدي اقناعي بها! بدا لي اب مستعد ان يخسر حياته من اجل سعادة ابنه. كان على وشك ان يقبل يديَّ كي اقبل بمرافقة ابنه!.كان رجلاً مسن اثقله تقدم العمر و مجابهة الحياة و امراً يحاول اخفائه عني يتعلق بحقيقة والدي و والدتي.
ضعت كثيراً، ببساطة لم اجد نفسي في تلك الليلة. كان على الصبية التي لم تتجاوز التاسعة عشر من العمر ان تأخذ قرار مصيري لأول مرة في حياتها. عَودوا ذواتكم و من تحبون على التدخل في صنع القرار مهما تكن صغيرة و في هذا انا ممتنة لعائلتي. فلولا قوة جدتي التي غرستها بداخلي لكنت فقدت صوابي و لأدرت ظهري لكل ماحدث و هربت من خوفي. 
اخذت قراري و بقيت بجوار والدي لمدة اسبوع و نصف و بعدها غادرت الى المانيا برفقة والدي و والده، جدي، و عمي. اما خالي غسان فغادر الى بيروت. لم يطول بقائُنا هناك فقد انهك المرض جسد والدي كثيراً. في كل مساء كان والدي يُحدثني عن والدتي و لقائه معها و ايامهم سوياً. كان يحاول ان يُبرر لي قراره بالإبتعاد عني. بعد اسبوع تعطل عمل الكلى لدى والدي فدخل في غيبوبة لمدة اربعة ليالي متتالية. استفاق في الساعة الثانية صباحاً من يوم الأحد الموافق ٢٨ ابريل فبدأ بالتنهد و اخذ يردد:" امك مابتحبك اكثر مني، امك هي الي رفضت انو تجي ع السعودية، امك بتحب شغله اكثر من اي شيء". ثم غاب صوته بعد ان صعدت روحه الى بارئها. غاب والدي عن الحياة بعد ان تعرفت عليه و تعلقت بطيبته و بحبه لوالدتي رغم ان حديثه عنها لم يتجاوز الأسبوع بل معرفتي به لم تبلغ الشهر حتى. لكن عندما قرر الرب ان يخطف روح والدي مني حقاً كان الوداع ليس كما اللقاء، حتى رأي والدي بوالدتي تبدد و  لحبها تنكر و من خوفها عليّ تبرأ!
عدت الى الرياض و بعد ثلاثة ايام قررت العودة الى بيروت. لا انكر ابداً ان جدي كان طيب الخلق معي و جدتي ايضاً. كنت محط تقدير من الجميع. كان الجميع يثنون على صنيعي. توسل جدي ان ابقى على تواصل معه. احببته كثيراً رغم كل ماحدثني والدي عنه. فرجل مسنٌّ في العقد التاسع من العمر لا يوحي ابداً مظهره بالقسوة بل على العكس. كان حدسي يقول لي ان ثمة امور اهم بكثير لم يخبرني اياها والدي، اهم من قسوة والده التي لم تقنعني اصلاً. و في ليلة الأخيرة استأذنت الدخول اليه. دخلت و جلست بجواره و قلت له:" ان كنت تحب ابنك فأخبرني حقيقة ماحدث". دمعة عينه فقال:" تزوجوا دون علموا و منذ ان حملت بكِ والدتك زادت المشاكل بينهما بسبب العمل و كثرت السفر نظراً لعملهما المشترك في الخطوط. هربت والدتكِ الى لبنان عندما علمت بأمر حملها. جدتكَ كانت تصر على والدكِ بأن يتزوج من ابنة اختها. والدكِ ضعف امام رغبة والدته فتزوج دون علم والدتك و دون علمنا بأمر زواجه. بعد قدومك يبدو ان الأمور هدأت بين والديكِ فقرروا مصارحتنا بالامر. صُدمنا من الخبر و غضبة جدتكِ من اجل ابنة اختها و انا صدمت من زواجه من جنسية اخرى و لانه اخفى الأمر هذا عدا عن وجود طفلة. غضبت منه و طردته من البيت. ساءت الأوضاع من جديد بين والديكِ خصوصاً بعدما علمت والدتكِ من والدكِ بأمر زواجه. اصرت والدتكِ على ان يطلق المرأة الأخرى و بأن يغادرا الى قطر حيث كانا يتداولا امر عقد جديد من الخطوط هناك. لم يقبل والدكِ بأمر الطلاق و لا بأمر العمل. زادت الأمور تعقيداً حتى وقع الطلاق بينهما بعد سنتان من قدومكِ". هنا لم يتمالك جدي نفسه فنهار بالبكاء و بالتوسل اليّ بالصفح و السماح. كان يردد:" ابني كان ضعيف الشخصية امام كل شيء، امام حب والدتكِ و حب والدته و رضاء والده. كان ضعيف الشخصية امام مواجهة المجتمع الذي بدأ بتناقل الخبر فهجر العمل و اغلق الباب على نفسه". سألته عن والدتي فرد:" لا نعلم عنها شيئاً". قلت له ان والدي اخبرني انها توفت فرد:" و نحنا سمعنا نفس الكلام". بدأت اتجول في الغرفة، ذهاباً اياباً. حاولت استشفاف ماحدث. اب ضعيف الشخصية و ام تحاول ان تنتقم لكرامتها. جدّ كان ينتصر لمبدأ من مبادئه وهو عدم الإرتباط بجنسية اخرى و جده تبحث عن الزوجة المناسبة من وجهة نظرها لإبنها البكر. وجدت الجميع كان يتصرف ليدافع عن حقوقه بالطريقة التي يراها الإنسب. لم اجد في حسابات احدهم مكاناً لي. لم اجد نفسي سوى في حساب عائلتي الصيداوية و لأنصف الحقيقة لمست في اعتذارات جدّي ندم شديد لم اجده في اتهامات والدي و محاولته التنصل من المسؤولية و لا في تهرب والدتي من تحمل قراراتها. 
حاولت ان لا اُحمل هذا الطاعن في السن اكثر مما يحتمل. قبلت رأسه و أبديت كل الصفح و طويت الصفحة.
عدت الى بيروت فوجدت الجميع في انتظاري. و بعد اخبار من حولي بما حصل شعرت ان كابوساً قد انتهى من حياتي. الا اني لم أنهار ولم التفت الى انتشال مابداخلي بعد. كنت اهرب عن مواجهة حقيقتي الجديدة. ان والدي الذي حرمت منه كان على قيد الحياة لكنه ابتعد عني لسبب مازلت لا اقتنع به!
مرت الأيام و السنين، كنت اتوارى خلف اي شيء عندما تهب نسائم هذا الموضوع. اما جدي فظل يتواصل معي مرة كل اسبوع. كان يهاتفني من الرياض و يتطمن عليّ و على عائلتي. في كل مرة كان يعود لتشكري على مافعلته مع والدي. توطدت علاقتي به كثيراً حتى اني دعيته لزيارة لبنان في ٢٠٠٤ فقدم و تعرف على جدتي و جدي و قضى اسبوع معي في صيدا. كانت حنيته معي كافيه لعدم اشعاره بتحمل تبعات قرار الأخرين. عندما مرض في اواخر ٢٠١٠ قدمت لزيارته في الرياض. عندما توفى حزنت عليه كثيراً.
 مضت عجلة الحياة لتعود من جديد الى عرقلتي. فبعد عام ونصف تقريباً عادت صديقة والدتي تلك التي زارتنا عندما كنا عائدون من بيروت بعد نهاية الحرب الأهلية. ففجأة وفي صباح يوم الأحد حيث كان انطوان و خالتي جيزيل في الكنيسة و انا في البيت مع جدتي حيث عطلة نهاية الأسبوع، في ذالك الصباح قَدِمت تلك المرأة فرتبكت جدتي كثيراً. جلست في غرفة الإستقبال و بدت بالبكاء. سألتها عن السبب فقالت:" بيك اتوفى؟". فقلت لها:" من زمان من شي سنة!". فقالت:"وشو خبرك عني اكيد بيكون رمى الحمل عليّ؟". حاولت التماسك. لم اتحرك من مكاني حتى على صوت جدتي وهو تردد:" اطلعي من بيتي، ارحموا هالصبية، اتركوا تعيش". لم تكن هذه المرأة التي ضليت لتسعة عشر عاماً انعتها بخالتي كذالك. فجأة اصبحت تلك المرأة هي والدتي. لم تعد والدتي متوفية كما اعتدت ان اردد. فجأة وجدتها تجلس امامي و تخبرني بما لم يخبرني اياه والدي.
اخبرتني ان والدي بعد ان علم بحملها اصر عليها ان تتخلى عن مولودها. رفضت و قدمت لبيروت و بعد ولادتي لجأت لأهله لتستنجد بهم. اهل والدي و جدّي خاصة انصفها و تدخل فأقنع والدي بالإعتراف بمولودته. كان شرط والدي هو ان تبقى المولودة في لبنان او ان تستقيل والدتي من العمل كي تتفرغ لمولودتها. والدتي رفضت التخلي لأنها كانت تخشى على مستقبلها خصوصاً وان والدي توقف عن العمل. كانت تررد :" انا مسؤلة عن صبية بالأخير". فثار جنوني في حينها و صارحتها:" انتي بحياتك مادفعتي ليرة عليّ فما تربحيني جميلة". أكدت جدتي ذالك الأمر فقد كان مصروفي اما من جدّي او من ماأكسبه من العم ابو وسام مقابل عملي في المكتبة او من انطوان  او من مساعدات من جبران الذي كان يعطيني مالاً مقابل ترجمة بعض النصوص له من باب المساعدة لي. كان جبوان تويني خير مساند لي. هذه حقيقة فأنا مدينة له طيلة حياتي. حاولت ان لا اكترث لكل مايقال. اخبرتها اني لن اترك حياتي ففاجأتني:" لا انا مابدي تكركبي حياتك كرمالي. و لا انا راح غير حياتي. انا مجوزه و عندي عيلة من صبي و بنتين. الك اخ و اختين بيجننوا". و قبل ان تبدأ بسرد تفاصيل حياتها سألتها:" شو بدك مني؟" فقالت:" بدي تعرفي انو الك ام و انو بيك ظلمني". عندها شعرت بخيبة امل لم اشعر بها من قبل. قبلت جبين جدتي، اخذت معطفي و قلت لها:" انتي ع راسي و امتين مابدك تشوفيني انا هون". خرجت و لم اعد الى البيت الا في المساء. توجهت يومها الى مااقتادتني اليه قدماي. كنت اجهل الوجهة، كنت ببساطة لا اعلم من انا! اغضبني برود والدتي خصوصاً و انا اتذكر حرارة وداع جدّي، والد ابي، لي قبل عام و نصف. لم يكن لقائي بوالدتي مشبع بعاطفة الأمومة. لم تكن والدتي على قدر من المسؤولية وهي تسرد ماحصل. كانت تحاول تبرير موقفها اكثر من محاولتها اعتذارها عن موقفها. لا احب اولئك الذين يبرروا لأنفسهم بحثاً عن ارضاء ذواتهم و ليس تطهيراً لذواتهم. الإفصاح عن الخطأ لا يعني الإعتراف به و لا يعني طلب الصفح. انا لا اغفر لأولئك الذين يظنون ان علو الصوت يعني إلزامي بتصديقهم و لا اولئك الذين يظنون ان قذف المسؤوليات يعني إلزامي بتبرأت ساحاتهم.
 
عدت فوجدت الجميع بإنتظاري. تقدم نحوي انطوان على عجل فغمرني. كانت جدتي قد اخبرت الجميع بما حصل. لا اعلم لماذا لم ابكى في وفتها رغم احتضان انطوان لي! 
ابتسمت و قلت للجميع:" بترجاكون ساعدوني انسى الي صار، ماحدا يحكي بالموضوع". توجهت الى غرفة انطوان و اخذت حبة منوم. كانت المرة الأولى التي احتاج فيها الى النوم رغم اني كنت قليلة النوم بسبب سعادتي الغامرة التي لا تكفيها الأربعة و العشرون ساعة في تلك الأيام. 
في الصباح كنت و كان الجميع كأننا حديثي الولادة. تناسينا ماصار. ولم تعد والدتي لزيارتنا سوى بعد وفاة جدّي في ٢٠٠٤ لتعود بعد وفاة انطوان في ٢٠٠٦.كانت تأتي لزيارة بيروت مرة كل سنة الا ان علاقتي بها ظلت في الإطار الجدّي الجاف. حتى علاقتي بإخوتي من امي ظلت في اطار الإحترام المتبادل نظراً لما افرزته علاقتي بوالدتي و نظراً لفارق العمر بيننا. الا ان علاقتي بها توطدت عندما مرضت في العام الماضي فرافقتها للعلاج حتى توفت. 

الحياة عقد من لألئ، وقوع احدها لايعني ان العقد غير صالح للإستعمال فأحياناً كثرة الأشياء تُقلل من رونقها. و كذالك كانت حياتي. لربما خسرت والدتي و والدي لكني ربحت جدتي، جدّي مروان، جدّي لأبي، انطوان، خالتي جيزيل و سارا هذا عدا عن اصدقائي فمنهم و بهم كانت حياتي..

رحلتي الأولى الى الرياض!

                                                            رحلتي الأولى الى الرياض!


هناك أحداث تساوي أيام و اخرى تنسف أيام و ثالثة تلد أيام جديدة. في حياتي ايام نسفتني تماماً فأضحيت من بعدها ركاماً الا ان رحمة القدر بي يومها بثت الروح في هذا الحطام من جديد. 
احياناً تأقلمكَ على فكرة معينة او واقع معين رحمة ربانية حتى رغم عدم نموذجية ذالك الواقع.
لفترة عمرية طويلة من حياتي كنت ألقن نفسي مبدأ جدتي:" الرب بيعطي و الرب بياخد". كان هذا هو جواب جدتي لسؤالي عن والدي و والدتي. في كل مرة ألمح فيها عائلة متكاملة كنت اسأل جدتي عن باقي عائلتي فتجيبني:" بيك و امك اتوفوا بحادث، الرب بيعطي و الرب بياخد". فما ان تجاوزت السادسة من العمر حتى توارى هذا السؤال خلف حنيّة جدّي و رعاية جدتي. 
كَبرت و انا مؤمنة بهذا القدر. كنت ادعي بالرحمة و الطمأنينة لروح والديَّ. كنت احبهما رغم عدم معرفتي بهما. حب الوالدين فطري. كنت احتفظ بصورة لوالدتي وهي في الثامنة عشر من العمر. كانت من جدّي. كنت اطلب صورة لوالدي فتقول جدتي:" الرجال مابيحبوا يتصوروا متل النسوان". اذا طلبت وصفاً لوالدي كي اتخيله فتقول جدتي:" الو عيون و تم و شعر متل العالم". فأسألها:" بعرف بس شو لون عيونو, زرق اما خضر؟ شعرو اسود اما بني؟". فتصفن جدتي قليلاً ثم ترد:" بظن اسود، عيونو سود و شعرو اسود" ثم تُبدي انزعاجها و تغمرني. كنت استغرب قول جدتي" اظن" فكيف تظن! الا تعرف شكل زوج ابنتها!. الا اني لست من اولئك الذين يُلحُون في التساؤلات اذا تبعثر الساكنون في قلبي.
مضت الأيام لأجد نفسي شابة على مشارف الثمانية عشر. و في صبيحة يوم الأثنين من شهر ابريل من العام ٢٠٠٢ كبرت ضعف هذا العمر بمرات و مرات!
في ذالك اليوم كنت انا و مجموعة من الأصدقاء نجتمع عند الدوار الأخضر في قلب الجامعة. كان الدوار مكتظ بالطلاب. اقترب الى الحشود مجموعة من طلاب الفنون الجميلة لتوزيع بطاقات دعوة لإفتتاح معرضهم. كان على البطاقة نماذج لرسومات المشاركين. احدهم قام برسم رجلاً يشبه في اطلالته الشهيد رفيق الحريري. فقام احد الطلاب و الذي ينتمي للحزب البعثي بالتعليق بصوت مرتفع على الصورة بإسلوبٍ استحقاري استفزازي. فطلب منه كارلوس احد الطلاب الذين اجلس معهم و الذي لديه انتماءات لحزب القوات بأن يحترم فخامة الرئيس. ليرد عليه ذالك الشاب بتمردٍ طاغي، حيث قام برسم يخت و مال الى جوار الصورة. فثار الطلاب و علت الأصوات. كان حسان احد طلاب حزب الله و الذي مازلت حتى اليوم افخر بصداقتي معه , رغم إختلاف أقطابنا, يحاول تفريق الطلاب الا ان الأمر تفاقم و الإشكال كبر. تدخل الأمن لفض الإشكال فوجدنا انفسنا في مكتب العميد الذي اسرف في توبيخنا و قرر منعنا من دخول الحرم الجامعي ليومين.
خرجنا من الجامعة في وقتها انا ، كارلوس، حسان، فادي، وسام و ساندرا الى احد المقاهي القريبة من الجامعة. عند وصولنا الى هناك لَحِقَ بنا عدنان، الطالب البعثي، و كان يصطحب معه مجموعة من الشبان. حاولنا ان نضبط اعصابنا لكن استفزازه كان لا يطاق. تطور الإشكال الى اشتباك بالأيدي فتدخل رجال الداخلية و اصطحبونا الى احد المخافر القريبة. تم التعهد بعدم تكرار الأمر و بضرورة وجود من يكفلنا. اتصلت بأنطوان فأخبرته فوصل و كفلني. 
في الطريق اخبرته عن قرار العميد بالفصل المؤقت. كنت افكر في جدتي و كيف سأخبرها. اتصل مار في ذالك الوقت بأنطوان ليسأله عن امر ما. اخبر انطوان مار بالأمر فقترح مار علينا بأن نأتي اليه في عمشيت لعله يتمكن من حل الإشكال مع الجامعة. و فعلا، توجهنا الى عمشيت و حاول مار بعد كمٍ من الإتصالات ان يُثني الجامعة عن قرارها الا ان العميد اصر على موقفه. اقنع مار انطوان بأن نكمل اليوم عنده في عمشيت. اتصلنا بجدتي و اخبرناها بأمر بقائنا لدى مار و اخفينا امر الجامعة. و بينما نحنوا نتجول بين احراش عمشيت اتصلت جدتي بأنطوان. كانت الساعة قرابة الثامنة مساءً. فجأة تغيير وجه انطوان و استأذن منا. ابتعد قليلاً و اخذ يتحدث الى جدتي بصوت خافت. شعرت ان ثمة سوء حصل لعائلتي. ارتبك انطوان كثيراً في حينها. قدم الينا فقال:" هي ستي بتخبرني انو المخابرات السورية اجوا لعندنا ع البيت و بيسألوا عني". ثم قال:" ستي بتقترح انو ظل هون و مانرجع ع صيدا". لم يكن انطوان يتلعثم امام امر المخابرات ابداً و لا جدتي حتى. لم تقنعني الحجة بداً. توسلت انطوان بأن يخبرني الحقيقة فظل يردد ذات الحجة. اتصلت بجدتي و ماان سمعت صوتها و انها بخير هدأت افكاري. بعد ان أطمأننة على كل افراد عائلتي بدأت احاول اقناع نفسي بحجة انطوان. بَقِينا لدى مار في ذالك اليوم. 
في المساء كان انطوان شارد الذهن حتى مار لاحظ ذالك. كان مار يسأل انطوان ان كان قد قام بأمرٍ تخطى كل الخطوط الحمراء هذه المرة الا ان انطوان كان يستسخف أمر المخابرات مما جعلني اعاود شكي بحجة انطوان، فطالما انه لا يكترث للمخابرات فلماذا بقينا لدى مار؟!
في الصباح استيقظت على صوت مار. اخبرني مار ان انطوان اضطر لنزول الى بيروت. كان مار يحاول ان لا تلتقي عيني بعينه، فمازال مار يجيد قراءة ماتبوح به عينيَّ كما اجيد قراءة ماتبوح به عيناه. 
شعرت ان هناك مايلوح بالأفق و يعدني بأمر سوء على وشك الحدوث.
اتصلت في الساعة العاشرة صباحاً بأنطوان فلم يُجيب عليّ فزاد الإرتباك بداخلي. عاودت الإتصال للمرة الثانية بعد ساعة لأجد انطوان على الطرف الأخر بنبرة صوت مختنقة. اخبرني انطوان ان ساعات قليلة و يأتي الى بيت مار. 
قبالة الساعة الواحدة وصل انطوان و مجرد ان نظر الى مار ادعى انطوان انه بحاجة الى مسكن لألم الرأس فطلب مني ان اتوجه الى الصيدلي المقابل لبيت مار لأحضر مسكن. كان أنطوان يحاول ابعادي عن البيت ليبوح لمار بما حصل في صيدا. عند عودتي وجدت انطوان و مار في وضعٍ مرتبك لدرجة انهم انتظروا وصولي عند سيارة انطوان و ليس بداخل البيت. اخبرني انطوان بأنه يجب علينا ان نتوجه الى صيدا حالاً لأن جدتي علمت بأمر الجامعة و لم تصدق و بأنه تريد ان تراني حالاً لتطمئن عليَّ. ودعنا مار الذي اخذني في حضنه لثواني استغربتها ثم نظر الى عينيَّ و ابتسم. اعترف اني من اولئك الذين تضيع منهم الحروف اذا ماشعروا ان ثمة امر يُربك من يقف امامهم. 
في الطريق من عمشيت الى صيدا لم يتحدث انطوان سوى عن الحياة و عن القدر. كان يردد:" الدني ايام بتعطي كل شي و بتاخد شي بس بالوقت ذاتو بتعطينا القوة بمطرح معين لنواجه كل الخيارين، خيار الربح و خيار الخسارة". كان يقول:" احياناً الي حوالينا بيخافوا علينا فبيتصرفوا بطريقة بيظنوا انو هي الافضل و لو ماطلعت هي الافضل فهالشي مابيعني انو ننسى انو هنّ حاولوا يمنحونا الافضل تماماً متل ماستي بتقول عن الحرب، انو الكل كان بيدافع عن لبنان بطريقة كان بيظن انو هي الافضل بس ماحدا فيهون ماكان بيحب لبنان". كان انطوان يتحدث و ثقتي تزيد بأن ثمة سوء قد حصل لكن لا اعلم ماهو. أعرف انطوان جيداً و عندما يبدأ بالحديث وهو منشغل بالتفكير في مايقوله و ينساب الحديث منه بين لحظات صمت و ترتيب الأفكار أدرك انا بأنه عليَّ التفكير بما تحويه كلماته من معنى و يزداد ايماني بأن مايخفيه انطوان اكبر من ان احتمله لذالك ييحاول ان ُيخفيه بين لحظات الصمت و التردد,  فأنطوان يعلم جيداً مقدار تحملي.
وصلنا البيت فوجدت جدتي و جدّي و خالتي جيزيل ينتظرون دخولي. كانت جدتي تجلس بجوار جدّي. عندما دخلت وقفت بتلقائية و قلت لها:" انا منيحه و بعرف انو انا هون مش كرمال قصة الجامعة، فخبروني شو فيه؟". وضعت جدتي يدها على الصوفية و ابتعدت قليلاً عن جدّي و نظرت اليّ و كأنها تريد مني ان اقترب منها. اقتربت فجلست حيث وضعت يدها، بينها و بين جدّي. جدتي لديها قوة في مواجهة الأمور اكثر من جدّي. جدّي تغلبه عاطفته و رجفة يداه عادةً بينما جدتي تستنجد بعقدة حاجبيها لتبدي قوتها و صرامتها و بساطة كل الأمور. امسكت جدتي بيدي و قالت:" انتي بتعرفي قديش نحنى بنحبك و بنخاف عليكِ و بتعرفي انو انا امك و هيدا بيك مع انو انا مني امك و جدك منو بيك". كانت المرة الأولى التي تتحدث بها جدتي بهذه الصرامة و هي تقول انها ليست امي و جدّي ليس ابي فقد كانت تبتسم و تنسف الهم, كما كانت تقول, اذا ماغمرتها و قلت لها:" انتي احن أم بالدني" فمالذي تغير؟!
واصلت جدتي حديثها فقالت:" انتي بتعرفي انو نحنى عيلة وحدة و لو شو ماصار ماحدا بيفرقنا لو مين مابيكون. انتي بتعرفي انو نحنى عيلة وحدة بنحاول نكون حد بعضنا بكل قراراتنا و اذا حدا اخد قرار عن التاني لأي سبب كان فأكيد راح يجرب ياخد القرار الي بيناسب العيلة و قبل كل شي بيناسبك الك". نظرت اليّ فقالت:" نحنى جربنا نكون عيلتك و مانحسسك بعدم وجود امك و بيك بحياتك. خبرناكِ الي هنّ بدون. بيّك قرر انو ينسحب من حياتك انتي و امك من قبل ماتجي ع الدني. امك بعد ماخلقتي قررت تفل و تروح لعند بيك متل مابتعرفي. بيّك و امك فعلاً كانوا بالسعودية. امك ماتت بس بيّك مش مزبوط انو ميت. بيّك بعدو عايش"!!
نظرت الى جدّي و قلت:" هي شو حقيقة او كذبت ابريل؟". ادار جدّي وجهه عني. سارعت جدتي بقطع الشك باليقين:" بيّك عايش و عمك وصل لبيروت و اجى لعندنا. هو بعدو ببيروت و بدو يلتقى فيكِ. حامل رسالة الك من بيك". تدخل جدّي فقال:" اذا مابدك ماحدا بيجبرك ع شي. بنقلو انو انتي مش حابه تلتقي فيه". فقالت جدتي:" الي لازم تعرفيه قبل ماتاخدي قرارك انو بيّك بحاجتك. بيّك بيعيش اخر حياتو". 
لا اعلم اي شعور انتابني. شعرت تماماً بشعور تلك الصخرة القابعة قبالة البحر. تلك التي كنت انظر كيف تلاطمها الأمواج دون ان تعترض بل على العكس كانت تتخلى رغماً عنها عن بعض اجزائها. سألت:" شو بعمول؟". كنت بالفعل ورقة في مهب الريح. قالت جدتي:" اعملي الي بتشوفيه صح. هيدا بالاخير بيّك و بيعيش اخر ايامو". ثقة جدتي ,لربما, في وقتها اشعرتني بكم من المسؤولية التي يجب أن أتحلى. عليَّ أن اتحلى بثقة عميقة كي لا تنهز ثقة جدتي في ابنتها شوق.   فإنهياري او بكائي يعني نسفي لثقة الجميع بإبنتهم. لا تتصرفوا كالكبار فتخفوا ردود افعالكم التلقائية بداخلكم, الا تروا كم من الكبار يتمنون ان يعودوا صغاراً. هم يتمنون التلقائية  اكثر من صغر الأعداد في خانة الأعمار. 
حاولت ان اتماسك. تصرفت عكس  ماشعرت. حاولت أن اتصرف كما كانت عينيّ جدتي تريد ان تبوح به اليَّ فكانت تقول بين نظراتها:" ماتخيبي املنا فيكِ" وفعلت. 
قلت لجدتي:" احكوا معو و قولوا لو انو انا ناطرتوا هلا لأعرف شو بدون مني".
و بالفعل عند الساعة الرابعة عصراً وصل العم. و يالطول وقت الإنتظار.
وصل وبعد ان عرفتني جدتي عليه جلس متأملاً ابنة اخيه لثواني. كان يبدو عليه الإرتباك اكثر مني. كان يبدو لي انه في أوائل العقد الثالث من العمر. بدأ يتحدث عن امتنانه لموافقتي على لقائه و امتنانه لعائلتي التي اخلصت في ترتبيتي. قال لي بغض النظر عما حدث من قطيعة لسنا معها الا انهم كانوا مجبرون على تحمل قرارت والديَّ! ثم اردف بأن والدي يعيش ايامه الأخيرة بسبب مرضه و بأنه يرغب بملاقاتي و هذه اخر امنياته. اخبرني ان والدي في الرياض و بأنه على وشك السفر للعلاج في الخارج كمحاولة اخيرة. قال لي:" انا حجزت التذاكر. فقط ليومين بتزوري والدك و بترجعي. يصاحبكِ من تريدين من عائلتك". ردت جدتي:" خاله غسان بيرافقه". شعرت ان جدتي تحفزني على الموافقة. و بالفعل اكتفيت بهز رأسي. اتفقنا على انه في الساعة العاشرة صباحاً سنغادر الى الرياض بصحبة خالي غسان لأنه يملك جوازاً فقد زار قبل عام السعودية بغرض اداء فريضة الحج مع جدتي. بعد عودتي من الرياض أخبرني أنطوان أن عائلة أبي تواصلة مع جدتي و جدّي من ثلاثة أسابيع و بعد أن نجحت في إقناع جدتي و جدّي بالعودة لظهور في حياتي قامت جدتي بإعطائهم صور لي ليستخرجوا لي جوازاً كي أتمكن من مغادرة لبنان الى الرياض. و بالفعل ففي صبيحة أحد الأيام منذ فترة أخبرتني جدتي بأنها تريد النزول و التجول أمام البحر. أثنا التجول مررنا بإستيديو لتصور و قالت وهي تبتسم:" تعي نتصور من زمان ماتصورت". و من باب الجنون دخلنا و قبل التحدث الى " المصوراتي ابو حسن" طلبت جدتي مني  أن أسرع لحجز كيلو " فلافل" من المحل المجاور. كانت تريد إخبار المصوراتي أن الصور هي لإستخراج جواز. عدت اليها فتصورنا معاً صورة و اخرى لوحدي ثم أمضينا يومنا بتلقائية! حتى انطوان أخبرني أنه لم يكن يعلم شيئاً عن أمر سفري. كان جدتي و جدي هما فقط من علموا بالأمر و أتموا إجراءات السفر.
في الليلة التي سبقت سفري الى السعودية امضيت الليل بطولة دون حديث. كنت اتهرب عن نظرات الجميع. في الوقت الذي كنت احاول ان اتصرف بتلقائية كي لا اُحمل عائلتي قرار والديَّ. كنت احتضن جدتي و جدّي كلما مروا بجواري. حاولت استفزاز الإبتسامة عنوةً من داخلي. نجحت لبعض الشيء او ربما اوهمت نفسي اني نجحت. من الصعب ان تُخفي مابداخلكَ عن من صنعوا كل مابداخلكَ فسكنوا فيك اكثر منكَ.
احياناً ماتشعر به عند تعرضك  لصدمة ما فإن وهج الصدمة يسرق منك الوقت فلا تجد وقتاً للبكاء او الإنفجار. تتصرف عكس ماتشعر او تشعر بعكس ماتتصرف. ربما لا تبكي كي تتناسى الأمر و قد لا تبكي كي لا تشعر ان ماحدث حقيقة فالبكاء ذروة الإعتراف بتصديقك بالصدمة. اكتفيت يومها بكأسٍ من العصير و قبلت جدتي و جدي و اختبئت في فراشي بحجة ان الغد سيكون يوم طويل. في خضم كل ذالك كان انطوان لا يتحرك من على الصوفية. كان يراقب تحركاتي و تبعثري. كنت اهرب منه او ان صدقت القول فقد كنت اهرب من الإعتراف بين ذراعاته بما يعتريني ليلتها. لكن ماإن أويت الى فراشي حتى دخل اليّ. جلس بجواري و قال لي:" بس قولي لي انتِ اكيده من قرارك؟". فقلت له:" بغض النظر عن انو ابي بيظل انسان بيعيش اخر ايامو و هيدي امنية بيتمناها قبل يموت، خلينا مافكر بأكتر من هيك هلا". نظر اليّ انطوان فلمس حاجتي الى الإختباء بين ذراعاته. انا و انطوان عادةً اذا تكالبت علينا الدنيا لا نكثر الحديث. كنا نجلس بجوار القلعة لساعات دون الحديث فما نغادر المكان الا و قد تبددت كل الهموم. كنا نمشي لساعات دون حديث فنفهم كل مانخبئه بداخلنا دون علو الأصوات. وهكذا كان ديدنُنا في ذالك المساء. اختفيت بين ذراعاته دون حديث. بقِينا مستيقظين حتى طلوع الضوء. وعندما مشط الضوء أرصفة الشوارع نزلنا لنتجول بين الأرصفة. شعرت في حينها اني اراها لأول مرة. وفي الثامنة عُدنا و بدأت بتفقد اغراضي. و في التاسعة خرجت و بكل صرامة طلبت من الجميع:" ماحدا يضعف و ماحدا يودعني. مابدي غير قراري". و بالفعل حاول الجميع التماسك امامي. لا اذكر كيف قطعت الطريق من صيدا الى المطار. في المطار كان هناك مار بإنتظاري. لا انسى مامنحني وجود مار من قوة. غادت مع عمي عماد الى الرياض صبيحة يوم الأربعاء و هناك بدأت اكتشاف عالم لا اعرفه! 

الثلاثاء، 17 أبريل 2012

المظاهرات من اجل لبنان..

                             المظاهرات من اجل لبنان..
 
أمور في الحياة تطرق الباب دون سابق انذار، الحب, الحرب و الموت على رأس تلك الأمور. قد تتعلق بشخص في لمحة و قد " تعلق" الحرب في لحظة فتموت اللحظة. كل الإحتمالات واردة.
الحب لا يُختصر في التعلق بالأشخاص. قد تعشق الأشياء، الأماكن و كذالك الأفكار. العشق يعني الأخلاص. 
لا أُنكر اني تعلقت بأنطوان منذ الطفولة. كان تعلقاً اخوياً فتحول مع الأيام الى صداقة ثم نضج اكثر فأصبح حباً عاطفي. ربما لم أنضج سوى في التاسعة عشر من العمر. لكن هناك في حياتي عشقٌ من نوع أخر. تربى هذا العشق على يدِ انطوان و رفاقه. انه عشق الأفكار و المبادئ، عشق الوطن لا السياسة. عندما سألت انطوان عن سبب  دراسته القانون الدولي بدلاً عن السياسات الدولية او الإعلام تلمذني على ان السياسة لعبة يَخشى من الإنخداع بأولئك الذين يشتروا الربح مقابل اي شيئ حتى لو كانت السلعة هي  الوطن. 
كان انطوان و رفاقة احد اولئك الشباب الذي راح ينقش وطنه على الشوارع، يرسم احلامه الكبيرة بالحرية و الإستقلال في ازقة وطنه الصغير. كثيراً ماكان يعود الى البيت و اثار الضرب على جسده باقية. كانت المخابرات السورية في ذالك الوقت، زمن الوصاية السورية، تُضيّق الخناق على المتظاهرين. كنت ارى في انطوان و رفاقه لبنان الذي احب. كنت اسمع في همساتهم ليلاً صوت لبنان الحق. كثيراً ماكان يُخبرني عن مايحصل من مظاهرات في الشوارع ضد الإحتلال السوري. في احد الأيام عاد من الجامعة وهو في قمة النشوة لأن سامي الجميل قام بإحراق العلم السوري في مظاهرةٍ معهم ضد الوجود السوري. كان انطوان احد طلاب الجامعة الياسوعية. كان في معقل التظاهرات و المواجهة، في شارع هوفلين في بيروت.
حدثني كثيراً انطوان عن ذالك الشارع و عن اجواء الشباب و روح الوطن العالية هناك. حدثني عن التنكيل و القمع و عن تلك الأماكن البعيدة المجهولة التي يُقتاد اليها الطلاب ليُحقق معهم في سر حبهم لوطنهم! 
في كل يوم كان هذياني بذالك الشارع و بتلك الأجواء ينمو بداخلي، يوماً بعد يوم كنت ازداد فخراً بأنطوان و رفاقة. كان يُخبرني عن روح المغامرة التي كانت تحميه عندما كانوا يقومون بتوزيع المنشورات. اخبرني عن رموز الإستقلال الحقيقيين. كان يُردد اسماء اشخاص ليسوا نواباً و لا وزرآء، لا مرشحون و لا متقاسمون. كان يُردد اسم سمير قصير الذي كان أستاذاً في جامعته حتى كدت أجن اذا مالم يتسنى لي قراءة مقالاً له ذات يوم. كان انطوان يضع النزول الى شارع هوفلين بمثابة المكافئة التي سيُهديني اياها اذا ما نجحت، اطعت، التزمت و " ماتنقوزت". حلمت لأيام و أيام بذالك الشارع. كان انطوان يرفض نزولي الى هناك بسبب سوء الأوضاع في تلك الفترة و زيادة الضغط على الطلاب من قبل المخابرات السورية. اذا أراد مناكفتي يوماً كان يقول: " بس تكبري كمان شوي راح اسمح لك تنزلي معنا في مظاهرة بالشارع". لم أكن أغضب إلا لأني كنت أعلم أن أنطوان لا ينظر اليَّ على أني صغيرة العمر فهو من كان يردد:" انتي ليش سابقه عمرك, روقي ع الدني بعد بكير". أذا غضبت خالتي جيزيل, والدته, من تعلقه المفرط بالعمل الطلابي كان يشعر بالحرج مقابل والدته فيتوارى مُغمِضاً عينيه واضعاً رأسه على قدماي و ممسكاً بيدي صامتاً دون حراك لساعات. كانت خالتي تخاف على انطوان من سطوة السوري و من المخابرات السورية التي وصل بها الأمر في أحد الأيام التي تلت مشاركته مع سامي الجميل في مظاهرت احراق العلم السوري الى أن تلحق به من الجامعة حتى مدخل صيدا ثم تلقي عليه القبض و تقتاته الى مكان بعيد لتحقيق. عاد بعد يومين فأخبرني عن مجريات التحقيق و كان يؤكد لي مراراً ان المحقق كان سوري اللكنة و أن التحقيق دام طيلة اليومين و كان معصوب العينين!
كانت جدتي و جدّي يلتفون حول انطوان اذا ماعاد من مظاهرة أو من تحقيق و كأنه عائداً من فلسطين مهللين و مكبرين فإفتخار. كان الحديث عن العمل الطلابي يُوقظ الحنين و العزة في روح  جدّي و جدتي.
كبُرت, كبُرت الأحلام و كبُر العمل الطلابي في لبنان بقدر كِبر مشاكل هذا الوطن الصغير. و في العام 2002 التحقت في الجامعة. كانت جدتي تقول:" انطوان باليسوعية مطرح ماانحرق العلم السوري و انتي راح تكوني بالجامعة الأمريكية مطرح ماابوفاعور حرق العلم الأمريكي". 
اذكر تماماً ذالك اليوم الذي زرت فيه الجامعة مع انطوان و رفاقه لتقديم أوراقي. كانت تماماً كما توقعت. كان سام يردد مازحاً:" ماتمشي مع العالم الفلتانه لانو العميد رفيقي لزم راح يخبرني دغري" فتخيلت أن العميد بالفعل يقوم بالتجول كل يوم في ساحات الجامعة و ممراتها! رافقني في ذالك اليوم انطوان, سام و مار. لم تكن علاقتي بمار تجاوزت الخمس سنوات بعد. فقد تعرفت على مار عن طريق انطوان. و سأبوح لاحقاً بالكثير عن مار. عندما خرجنا من الجامعة في ذالك اليوم و بينما نحن على بوابة الجامعة نظر اليَّ انطوان و اخذ يردد:" و الله كبرت الصبية و صارت بالجامعة" فرد سام:" يالله بدنا نجوزه و نخلص من همه". فغضب انطوان فقال لي بكل جدية:" بس تخلصي محاضرات بلاقيكي واقفة حد هالشجرة مابتتحركي!" فرد سام :" ناقص تخبره عن المصروف, الصبية كبرت و بعدك بتعامله متل الولاد الصغار, منّه بالمدرسة تتوقف حد السور تنطر انو تجي تتاخده". فرد مار:" معو حق, ليكي بس تخلصي فيك تطلع ع البيت او فيكي تنزلي ع مكتب انطوان و فيكي تروحي لسام و فيكي تجي لعندي اذا كنت هون او ع المكتب". عندها أمسكت بيد أنطوان وقلت له:" ماراح اتحرك من هون و ماراح يتغير شي أو بسحب أوراقي هلا من الجامعة و بلاها". كان انطوان يعمل في مكتب للمحاماة بالقرب من الحمرا.
كانت الحياة الجامعية حياة لا تتكرر. كنت أعشق كل تفاصيلها, ممراتها, قاعاتها, ساحاتها, مسرحها و أصوات أشجارها. كنا نتجمع في زوايا الجامعة و نُشبِعها بالحديث عن السياسة و "أحوال البلد". كانت لحظات الإنتخابات الطلابية أهم أحداث الجامعة حتى أهم من حدث التخرج نفسه. كنت أخبر أنطوان عن كل شيء. عن تحركاتنا, اللوائح الإنتخابية و التحالفات السياسية. عن الشعارات و الهتافات. لم نكن ننتمى لزعامة معينة بقدر ماكنا ننتمي للبنان الحر السيد المستقل. كنا مولعين بخطابات جبران تويني و سمير قصير أكثر من خطابات السيد حسن التحريضية في تلك الفترة. كنات نفكر بطريقة جبران و سمير لا بطريقة أميل و لا نصر الله!
كان أنطوان يُنصت لي جيداً عندما أخبره عن العمل الطلابي الذي بدأت أندمج به.  كان انطوان يتابع عمله السياسي من خلال مشاركته في الأنشطة الحزبية و الطلابية حيث لم تنقطع علاقته مع طلاب جامعته و لم يتجرد من روح الشارع. كانت علاقته باستاذه سمير قصير متواصلة فكان يحضر كل ندوة او محاضرة يُلقيها سمير في الجامعة اليوسوعية في تلك الأيام. أصبح الحديث عن السياسة و الهم اللبناني حديث مشترك بيننا. كان يتفانى في القضايا التي تلامس خيوطها قضاياً اجتماعية او وطنية. أصطحبني معه ذات مره الى قاعة المحكمة حينما كان يترافع عن أم حسان أحد الاتي كانت تبحث عن مصير إبنها في السجون السورية و التي تعرفنا عليها أثنا الأعتصام الذي أقامه أهالي المفقودين في حديقة سمير قصير.
بدأت الإنخراط في التجمعات الطلابية و بدأنا نكرس الحديث عن كيفية التعبير السلمي عن رفض الوصاية السورية. بدأت أفهم لماذا نحرص على وجود "علب المناديل" على طاولات المطاعم التي كنا نجتمع فيها سراً مع باقي طلاب الجامعات الأخرى قبل المظاهرات بأيام. كانت هذه المناديل هي الوسيلة التي نكتب عليها تحركاتنا السرية ثم نقوم بتوزيعها فيما بيننا. كان أحد الطلاب يكتب مفاتيح التحرك ثم يتركها على الطاولة فيقوم النادل و الذي يكون مؤيد لنا بتنظيف الطاولة. يأخذ المنديل ثم يأتي الى الطاولة الأخرى فيضع علبة الماء و معها مجموعة من المناديل للخدمة فيكون من بين تلك المناديل ذالك المنديل الذي كُتب عليه مفاتيح التحرك. نقرأ التعليمات ثم نترك المنديل لينقله النادل عند مغادرتنا الطاولة الى المجموعة الأخرى و هكذا. كنت أتقن هذه اللعبة جيداً دون ان يبدو على ملامحي أية علامات إرتباك و الفضل يعود لأنطوان فقد أشبع هذه الطريقة وصفاً لي عندما كان في الجامعة. كان مايُميزُنا هو التواصل المترابط بين طلاب جامعتي , الجامعة الأمريكية,  بطلاب الجامعات الاخرى, كالجامعة اليوسوعية و جامعة بيروت و غيرها من الجامعات. كنا نعتنق فكرة لا رمز حزبي رغم انتمائتنا المختلفة لأحزاب متعددة. كان حزب الكتائب هو الأنشط في وقتها. كنت معجبة جداً بهذا الحزب. الا ان كل الطلاب كانوا يتحدون رغم اختلاف انتمائتهم فقط من أجل هدف واحد و هو طرد السوري.
و في نفس العام اي في 2002, كانت المظاهرات شبه يومية خصوصاً في شارع هوفلين حيث تتمركز الجامعة اليسوعية. أخبرت انطوان عن مشاركتي في تلك المظاهرات فكان يبارك لي الأمر. كان يشارك معنا في معظم تلك المظاهرات. 
في أحد المظاهرات  في شارع هوفلين. كنا نخرج من الجامعة الامريكية و نبدأ بالتجمع حول الجامعة اليسوعية فينضم طلاب اليسوعية الينا كالمعتاد ثم بدأت الهتافات ضد السوري. كنا نردد" حرية, سيادة, استقلال", " هيه يالله سوريا اطلعي برا" و غيرها. الا ان الحماسة زادت لدى أحد المتظاهرين و كان من الجامعة اليسوعية فقام بإحراق العلم السوري. فجأة ثار الأمن الذي كان يجتمع في كل مره خارج اسوار الجامعة بأعداد مهيبة تزيد من شعورنا بأهميتنا و قدرتنا على التغيير. بدأ رجال الأمن و الجيش بالأنقضاض على الطلاب ضرباً و ركلاً محاولين تفريقنا بالقوة. و بدون اية خلفيات تم أخذ أعداد منّا الى سيارات خاصة. لم نتوقف عن الهتافات حتى داخل تلك السيارات التي أقلتنا الى مركز المخابرات. تم التحقيق معنا بعد أن قاموا بضرب الشبان منَا ثم ألزمونا بالتوقيع على تعهد خطي بعدم التظاهر مرة أخرى!. 
كنا قرابة الثمانية و العشرون شخص. سبعة من الطلاب كانوا فتيات. حينما جاء دوري في التحقيق لم أكن أشعر بأية مشاعر. كانت اللكنة السورية الغالبة تشعرني بالإشمئزاز. سألوني عن إنتمائي السياسي و كان يُلح المحقق عليَّ بأن أقول اني أنتمي الى حزب القوات فلم أرد عليه و اكتفيت فقط بالنظر اليه و تأمل تصرفاته. زاد برودي من غضبه فشدني من شعري و قرب رأسي الى مكتبه ليلزمني بالتوقيع على التعهد. فتأملت الورقة كي أقرأ ماهو مكتوب. فقد أخبرني انطوان من قبل أنهم قد يجعلوني أوقع على أوراق قد تُدينني أو قد أوقع على محضر أعترافات لم أدلي بها كي تستخدم ضدي فيما بعد! فسألني بصوت جهوري:" شو عم تتأملي أو خوفك نساكي كيف بدك تمضي؟!" فلم أرد عليه و واصلت قراءة التهعد. كان فيه " اتعهد بعد المشاركة في أي تظاهرة تمس أمن البلد!!". للأمانة كنت أشعر برجفة و خوف خصوصاً و ان ثورات غضب ذالك المحقق بدأت تعلو. وقعت و كنت أحاول أن أهدأ من خوفي و غضبي بترديد": هيدا حبر ع ورق" تماماً كما كان يردد انطوان في كل مرة يزور فيها المخابرات. و بعد ست ساعات من التحقيق أخذونا من جديد بسيارات و اعادونا الى أماكن متفرقة. كل ذالك تم و نحنوا معصوبي الأعين. اذكر اني أنا و أربعة من أصدقائي وجدنا أنفسنا مرميين على بداية طريق نهر الكلب!!
أخذنا سيارى أجرة و توجهنا الى الجامعة فهاتفت انطوان من هاتف أحد الأصدقاء, فهاتفي تحفظت المخابرات عليه.كان انطوان و سام يبحثان عني في الجامعة الأمريكية بعد أن غادروا اليسوعية. فأخبرته أني عدت و أنا بخير فقال:" ناطرك بالقهوة ماتتاخري". توجهت الى الجميزة حيث قهوة القزاز. دخلت الى القهوة فحتضنني أنطوان حتى كدت أشعر أني لأول مرة أحضى بغمرة أنطوان. تطمن عليَّ سام و مار. لم أكن استوعب مايقوله لي مار و سام و السبب هو وجود بيار الجميَل على الطاولة يجلس مع انطوان و سام و مار. عرفني انطوان لشيخ بيار فكانت لهفته للإطمئنان عليَّ و على باقي الرفاق تُضاهي كل أبوة عفوية. كان يقول:" هيئتك خوته طالعه لأنطوان" و ظل يردد هذه الجملة في كل مرة كنت ألتقي فيه. أخذت أخبر الشيخ بيار عن ماحصل. لم يكن هاتفه يهدأ فقد كان يجري اتصالات تبريكات بإطلاق سراحنا. أخبرني أنطوان فيما بعد ان الشيخ بيار كان يتفانى في الدفاع عن الطلاب و تحركاتهم و انه في ذالك اليوم بذل جهوداً جبارة لإطلاق سراحنا. كان الشيخ بيار يردد دائماً:" الشارع هو لبنان, و لبنان لأهل الشارع". 
حتى اليوم لا زلت أسمع هتافاتنا و شعاراتنا. وحدتنا و إلتفافنا. حتى اليوم أغضب اذا ماسمعتهم يرددون بأن ثورة لبنان هي ثورة الأرز و حسب. فماثورة الأرز إلا نتاج عمل سنوات سبقتها. قلت ذالك ذات مرة لجبران تويني فبتسم و قال:" ياريت الكل بالبنان بيغار على لبنان متل ماأنتوا الشباب بتغاروا على لبنان". قال لي مرة:" ماتتنازلوا عن الشارع لانوا لبنان لألكون". 
ستبقى تلك الأيام مصدر فخرٍ و ان ظن البعض انه ضرب جنون..
 
للحديث بقية إذا كان لي من القدر فسحة.. 


الأحد، 15 أبريل 2012

أحلام لا تمـــوت..

                           أحـــــلام لا تمــــــوت..
الأحلام ترسِمنا بصدق بقدر مانُخلص في رسمها. الحياة خارطة فيها من الممرات و الأزقة مايتسع لخطاكَ و منها مايُضيق على انفاسك و أخرى يستهينُ بها رساموا الخرائط فلا تجد لها تبياناً على خرائطهم، و لربما كانت تلك أهم الأزقة. 
في ممرات زقزوق حمص"، أحدى حارات صيدا القديمة، رسمتُ أحلامي فتسعت أزقتها الضيقة لأمالي. مازلت حتى اليوم احرص على زيارة هذه الحارة في كل مرة اعود فيها الى لبنان. الوضع اختلف هناك، لم يعد المسيحي جار السني، في قلبه قبل حجره. أُرهبت الأوضاع هناك. قديماً كان السير بين ازقة هذه الحارة متعة لا يُضاهيها متعة. كانت بيوت الحجر تكسو المارة حناناً بقدر مظهرها القاسي. عملت هناك لخمس سنوات ممتالية لدى العم ابو وسام، صاحب مكتبة لبيع الكتب و أمهات الكتب. كنت ابلغ من العمر خمسة عشر عاماً، كان ذالك في العام ١٩٩٩. 
لم يكن الإعتماد على الذات وارداً في حساباتي في يومها و لم أكن في حاجة للعمل لتوفير مصروفي. جدّي كان يوفر ليّ كل مااريده حتى دون ان اطلب. لكني قررت العمل و الإعتماد على النفس او كما كنت اسميه الإكتفاء الذاتي تقليداً " لشلة الختيارية" كما تُسمينا جدتي. 
ذات مساء, كنت انا، انطوان، سام و جاد نجلس تحت شجرة الليمون المقابلة لبنايتنا. كنت انا في الخامسة عشر من العمر بينما انطوان و رفاقه كانو في الثانية و العشرون من العمر تقريباً. كنا نتحدث عن الحركة النشطة في صيدا و عن ازدحام" الإستراحات البحرية" و المناطق التراثية بالزوار هذا عدا عن " العجقة" في بيروت بسبب الصيف. كان جاد يتمنى لو اننا نمتلك مالاً زائداً فننزل لقضاء يومين " رواق" في بيروت بين المطاعم و الملاهي الليلية بينما سام و انطوان حَلِموا برحلة بحرية ليوم كامل. كان العائق هو عدم توفر مال اضافي لدى الجميع، فما يتوفر بين ايديهم هو فقط مايكفي لمصروفنا اليوم. 
وبينما هم بين الحلم و الواقع، اقترب "اسعد"، طفلٌ في الثانية عشر من العمر يبيع سجائر و علكة. فقال له انطوان:" مابنشرب دخان". فرد اسعد:" لكان علكة؟". فرد انطوان:" مابدنا". فأخذ اسعد مكانه على الطرف المقابل لطريق و بدأ بجرد ارباحه و خسارته، فقد بدأت شمس ذالك اليوم بالمغيب. بدأ جاد بمناكفت اسعد فتسع الحوار و ارتاحت الأرواح. قبل ان يتحدث الينا اسعد ظننا جميعاً ان الحاجة هي مااتلفت قدمى اسعد من الدوران ببضاعته في شوارع صيدا، لكننا اكتشفنا النقيض. اخذ اسعد يتحدث عن عمله, فهو يعمل ليجمع مالاً يسمح له بشراء طائرات ورقية من باعتها قبالة البحر ليعاود بيعها على الأطفال بسعرٍ جيد ثم يجمع المال ليغادر به بعد ايام الى بيروت حيث ابناء خاله و يتلذذ هناك بشراء كل مايتمناه من محلات الألعاب الإلكترونية. بدا اسعد و هو يتحدث عن رأس المال و الربح و الخسارة و كأنه يُدير شركة تبغٍ عريقة!
 
بعد هذه الحادثة بيومين كنا نجلس عند القلعة البحرية امام البحر، كان انطوان شارد الذهن متبحر التفكير. كان جاد يغني اغنيته التي يعشقها:" شو فيه خلف البحر" لراحلة سلوى القطريب. بدأنا نتحدث عن ماذا لو هاجرنا للعمل و مع الأحاديث قال انطوان:" ليش مابنسافر هلا؟". نظرنا الى بعضنا قليلاً فأسرع انطوان و اردف:" نحنى بالجامعة و مصاريفنا بتزيد، خلونا نسافر ع بيروت و نبش ع شغل". اخذ الحديث طابع جدي و بدأ حلم الشباب في فرصة العمل و الاستقلال المادي يتبلور. فقرروا ان ينزلوا في الغد الى بيروت للبحث عن عمل. فقلت لهم اني اريد العمل مثلهم. فأخذ انطوان يحاول اقناعي بالعدول عن الأمر نظراً لعدم موافقة جدّاي بذالك و لصغر سني و لعدم تخرجي بعد حتى من المرحلة الثانوية. زاد غضبي و اصراري فكان سام يردد:" نحنى بالجامعة و ياريت بنلاقي حدا يشغلنا فكيف انتي؟!".
توسلت يومها لأنطوان فرفض فزدت توسلاً فتحمس سام معي و قال لي:" خلينا نمشي بالقصة نتفه نتفه، بنحكي ستك و جدك و بس بيوافقوا بدوري شغل و بس بتلاقي بنقنعلك انطوان". و فعلاً، توجهت الى مكتبة جدّي مسرعة و ازقة صيدا تتسع امامي اكثر فأكثر. وماأن وصلت كان يَهِمُ بإغلاق مكتبته. وقفت امامه فقلت:" جدو بدي اشتغل و مابدك تعترض، بدك تساعد حبيبتك الي بتحبك قد الدنى ماهيك؟". كان العم جورج, الدكنجي,  يضع كرسيّه في خارج محله فبتسم و قال لجدّي:" خلص حالك اذا بتخلص". 
في الطريق لم اتوقف عن اقناع جدّي بضرورة العمل و الإستقلال، الطموح و الأحلام. كان جدّي يكتفي فقط بالإبتسامة. كانت ابتسامته ابتسامة الشمس ليّ. عند مدخل البناية التقينا بأنطوان و سام فقال لهم جدّي:" شو ياشباب بتحرضوا الصبايا ع العمل؟". ابتسم انطوان فقال:" انا ماخصي". 
كان جدّي احياناً يدعي انه ينزعج اذا ابديت تأيدي او حبي او انصافي لأنطوان و كان يقول:" مش انا بيّه؟ مابيحقلي غار ع بنتي؟". 
استغليت انا هذا الجمال في روح جدّي، فقلت لأنطوان:" اكيد انتَ ماخصك، ماحدا خصو غير جدّي" و همست اليه:" حتى ستي ماخصه". كنت احاول ان اغويه بطفولةٍ. ملامح جدّي الحنونة و تلك التجاعيد في جبينه مازالت هي حدود اجمل وطنٍ عشت فيه.
صعدنا الى البيت و دون مقدمات قال جدّي لجدتي بعد ان سألتني:" غريبه راجعه مع جدك، شو مين زاعجك منون؟"، كانت تقصد انطوان و رفاقه. فرد جدّي بحكمته اللماحة:" مابتعرفي؟". فقالت جدتي:" شو؟". فقال جدّي:" الشباب قرروا يشتغلوا و اتمسخروا ع بنتنا انو شو، انو هي غنوجه و مش قد الشغل، بس فشروا بنتي قد حاله و راح تشتغل تتبرهن لون هالشي". فقالت جدتي:" شو هالقصة؟ من وين طلعتي بهالقصة". فبدأت استعطاف جدتي و بأني نلت الشتائم من انطوان و رفاقة فقد قالوا:" الكل بيعرف انو سِتك نزعتك بدلاله، و ماحدا راح يقبل يشغلك عندو، انتي مش خرج شغل". أصابت أنطوان حالة من الذهول أمام قدرتي على التمثيل و استعطاف جدتي, بقيَّ لزمن يسترجع هذه الحادثة.  جدتي ذات طبع حاد و شخصية قوية، صلبة بقدر حنانها، عقدة جبينها تتبدد في لحظة ماان تلمح لمعة الدمع في عينيَّ. اعترف اني لعبت كثيراً مع جدتي على هذا الوتر.
دون تفكير قالت جدتي:" خلص بتشتغلي مع جدّك بالمكتبة". فقلت:" راح يقولوا هيدا دليل ع انو ماحدا قِبل يشغلني فشغلني جدّي". لم اكن احب ان اعمل لدى جدّي لأن مسألة الإستقلالية و اثبات الذات تُراود كل فتاة في عمري. قالت جدتي:" لكان شو راح تشتغلي؟". فقلت:" راح انزل دور ". فرفضت جدتي و اشترطت ان يرافقني جدّي او انطوان.
في صباح اليوم التالي نزلت مع جدي و في طريقنا الى مكتبة جدّي وجدنا العم ابو وسام، صاحب مكتبة كتب في زقزوق حمص، واقفاً في انتظار وصول جدّي. كان العم ابو وسام صديق مقرب لجدّي فكلاهما احبوا لبنان و شاركوا في حروبها، جمعهم الحرف و الحرب. كان قادماً ليأخذ من جدّي قائمة اسماء الكتب التي يُريدها جدي من بيروت. كان العم ابو وسام ينزل مرة كل شهر الى بيروت ليجلب كتب الى مكتبته و اعتاد ان يسأل رفاقه عن حاجاتهم من الكتب ليَجلبَها معه. و مع فنجان القهوة اخبر جدّي العم وسام عن رغبتي في العمل. شجع العم وسام تفكير الصبية ذات الخامسة عشر من العمر. عرض العم ابو وسام ان اعمل لديه في مكتبته. وافقت دون تفكير. في نفس اليوم، سلمني العم ابو وسام مفتاح المكتبة و قال لي:" افتحي المكتبة و كل كتاب بتبيعيه او حدا بيتسلفوا منك بدّونيه و بس بتصير الساعة وحده بتقفلي، بترجعي تفتحي المساء و ع التمانية بتقفلي و عشيه ع التمانية الصبح بتفتحي و بتلاقيني واقف عندك". شعرت و هو يتكلم بحماسة لا توصف و قبل ان ينهي حديثه كنت قد قبلته هو وجدّي و غادرت المكان. اذكر اني فتحت بوابة المكتبة الحديدية دون خوف من صوتها الصاخب مع ابواب المحال المجاورة. دخلت المكتبة فشعرت بنفس شعوري و انا اسمع حديث الطفل اسعد في ذالك المساء. مازلت اذكر رائحة الكتب و مازلت ممتنة للعم ابو وسام و لثقته و حبه ليّ. القلوب الكبيرة تستفز احلاماً كثيرة. الأماكن العتيقة تحنُّ على الأحلام كثيراً. في نفس ذالك اليوم زارني انطوان و رفاقه فلم يصدقوا و اذكر اني وعدتهم بأن اول مبلغ احصل عليه سوف اشتري به تذاكر لي و لهم لحضور فيلم في سينما الحمرا حيث كانت بالقرب من المكتبة. بعد اسبوعين دعوتهم على فنجان قهوة في خان الإفرنج بجوارنا.
لم استطيع ان اهجرها حتى بعد التحاقي بالجامعة و ازدحام يومي. كانت من اهم طقوسي اليومية.
عملت لخمس سنوات ممتالية. و بعد عام من التحاقي بالجامعة توفى العم ابو وسام فقرر ابنائه بيع المكتبة. احياناً بيع مواطن الأحلام يخنقُ الأحلام لكن لا يقتُلها. تلك الممرات الحجرية في زقزوق حمص مازالت تحمل احلامي، طموحاتي و ذاكرتي. لا شيء يقتلع احلامك اذا حفرتها بين الحجارة!


السبت، 14 أبريل 2012

برائة الإعتذارات..

                                   بـــرائــــة الإعتــذارات..
اجمل الإعتذارات هي تلك التي يتفانى اصحابها في اغلاق الجراح تماماً بمقدار تفانيهم بأن تبقى ايام تلك الإعتذارات اجمل الأيام. 
كانت مدرستي في صيدا من المدارس التي يشترك طلابها في العمل التطوعي و الكشفي خصوصاً في ايام الرفيق الشهيد رفيق الحريري. 
في اول شهر من انضمامي الى فريق الكشافة, حيث كنت في الثالثة عشر من العمر,  أولت الكشافة اهتماماً بتنظيف شواطئ صيدا.  تطوعت مدارس كثيرة في بعض الأنشطة التي نقوم بها, فتحالفت الكشافة من اكثر من مدرسة في احد الأيام من أجل القيام بتنظيف شواطئ بيروت. في مثل هذه التجمعات يتم اختيار افراد معينه من الكشافة نظراً لكثرة الفرق الكشفية المشاركة. 
خرج السيد اكرم، رئيس الكشافة في حينها، و بدأ بتعليق قائمة بأسماء الأشخاص الذين سيشاركون في هذا الحدث ثم قال:" الي بيلاقي اسمو يجي لعندي تياخذ ورقة التكليف". تسارع الأفراد الى لوح الإعلانات باحثاً كلاً عن اسمه. نادت فرح بصوتها العالي فرحاً:" راح تطلعي مع الجروب". 
مع اطلاق صافرة نهاية الدوام خرجت مسرعة لأُخبر انطوان و رفاقه عن الخبر. عند خروجي وجدت انطوان، سام و جاد يقفون امام سور المدرسة بطريقة غريبة، كانوا لا يتحدثون و يسندون اجسادهم الى السور. صرخت بهم:" شو فيه!". فوقف جاد بيني و بين انطوان و بدأ يتصرف كما يتصرف الحراس الشخصيون!. اخذ يردد:" الجقل بدو يفكر اذا بيحكي معك اما لا"!. جن جنوني اكثر و اخذت طريقي الى البيت و انا اردد:" تصطفلوا ماراح خبركون شو صار معي اليوم". تبعني انطوان و كان يحاول ان يهدأ من غيضي بينما جاد و سام كانا يرددان:" لنشوف مين بدو يشوف حالو ع التاني!". ادرت وجهي إليهم و بدأت بالهجوم و الدمع في عيني. لم يكن يستثيرني شيئاً في الحياة تلك الأيام بقدر مايستثيرني اخفاء امر عني من قِبل انطوان او رفاقه. رقّ قلب سام و انطوان عليّ بينما جاد استمر في مناكفتي، فجاد و انا من ذات البرج. قال لي انطوان بأنهم مدعون مساء الغد على سهرة في احد مطاعم بيروت الفاخرة و سيقضون اليوم بطوله هناك. كلوديا ابنة خالة جاد و صديقتهم في الجامعة دَعتهم الى عيد ميلادها في بيروت. الجميع نال الموافقة من ذويهم. اردف انطوان:" و الحلو انو نحنى التلاته عملنا المستحيل لقنعنا ستك انو تروح معنا و وافقت". فقلت:" بس انا مابدي روح معكون ع بيروت". " ماتتساقلي" كان جواب سام بينما جاد اخذ يردد:" مش بأيدك". 
بدأت اخبرهم عن امر الكشافة فأخذ سام و جاد يحاولان اقناعي بمرافقتهم. سألني انطوان ان كنت ارغب بالكشافة اكثر من مرافقته الى السهرة فجاوبته بدون تردد:" اكيد بدي الكشافة". كنت لا استطيع ان ارفض خصوصاً و انه من المحتمل كما اخبرنا السيد اكرم ان الرئيس رفيق ربما يُشاركنا في الفعالية. كانت رؤية رفيق الحريري في يومها حلم بالنسبة ليّ و لأي شخص. هذا عدا عن اننا كنا على اعقاب الصيف و انا منتسبة جديدة للكشافة فإذا لم اُبدي حماسي منذ البداية فسيتم استبعادي عن الكشافة خلال رحلات الصيف. كنت مولعة بالعمل الكشفي التطوعي.
وصلنا الى البيت بعد ان قطعنا الطريق دون اية حديث يجمعني بأنطوان. دخل أنطوان الى غرفته و لم يخرج للغداء معنا. شعرت جدتي ان ثمة اشكال وقع بيننا. كنت اخبر الجميع عن الرحلة و ماذا افعل و ماذا اقول. توجهت الى سارا لتساعدني في كتابة الكلمة فعتذرت لإنشغالها بمشروعها البحثي. بمجرد خروجي من الغرفة وجدت انطوان يجلس على مائدة الطعام و يداه على المائدة بينما عيناه يتابعان حركة اصابع يداه. قال لي:" هاتي ورقة تساعدك بالكلمة". اسرعت اليه و بدأنا في الكتابة. كتبها بخط يده ثم عاد الى غرفته و لم يتحدث اليّ قط.  
في المساء كان الجميع حول التلفاز، حتى انطوان. اذكر جيداً البرنامج الذي كانت عائلتي تحضرة. كان البرنامج على المحطة اللبنانية. كان اعادة لبرنامج قديم لنجيب حنكش. كان يستضيف في تلك الحلقة السيدة ماجدة الرومي و والدها حليم. كانت السيدة ماجدة في أول مشوارها الفني، لم تتجاوز في حينها الخامسة او السادسة عشر من العمر. كنت اجلس على الأرض و اضع ورقة الكلمة التي كتبها ليّ انطوان على المائدة و اعيد كتابتها بخيط يدي. كنت اتحرك كثيراً و اسأل انطوان بين لحظة و اخرى ان يقرأ لي ماخطه على عجل, فأحجب التلفاز عنه مره و يبدو جلياً له مرة أخرى. اذكر جيداً عندما بدأت السيدة ماجدة تغني اغنية لفيروز" شايف البحر" اقتربت الى انطوان ليقرأ ليّ احدى الكلمات  فثار في وجهي. تدخلت جدتي لتهدئة الوضع و كانت تردد:" شو صاو ". انطوان غضب اكثر لأن جدتي وبّخته لأنه صبَّ جام غضبه عليَّ. كان يقول:" صرعتينا بالكشافة و بالكلمة، الحق مش عليكِ الحق على الي بيفكر فيك و جاي ركض لعندك لتروحي معو و تتسهري و تتسلي". كنت واقفه دون حراك. كانت المرة الأولى التي يتحدث فيها انطوان اليّ بهذه الطريقة. و اذا به يغضب اكثر فشد الورقة من يديَّ و مزقها. عندها فقدت تماسُكي و انهرت بالبكاء و توجهت الى الغرفة و رفضت الحديث لأحدهم. لفت نظري جدتي وهي تنظر الى خالتي جيزيل و تبتسم فظننت انها تبتسم من ردة فعلي الطفولية. توسلت جدتي، سارا و خالتي لأفتح الباب لكني لم استجيب و استسلمت للبكاء. لكن في نهاية المطاف اذعنت لتوسلات جدَّي ففتح له الباب بشرط ان لا يدخل احداً سواه.
دخل جدي اليّ و اخذني الى حضنه و بدأنا نتحدث فيما ماحصل. غفوة دون ان اشعر و كل الحزن يسكنني. 
فجأة استيقظت جدتي بصوتها العالي و هي تنادي:" حدا يفيق شوق بيكون الأوتوكار فل".  استيقظت فزعاً و الذي زاد من غضبي هو اني افقت و انطوان يغفو على الأريكة المقابلة لي لأجد ان جدي قد نكث العهد الذي بيننا و سمح لأنطوان بأن يدخل الغرفة بعد ان غفوة!
استنفرت كل العائلة علّي اكسب الوقت و الحق بموعدي.
كان المتفق ان يجتمع الطلاب قبالة احد المحال في شارع الأوقاف حيث تنقلنا الباصات الى مدارس في بيروت حتى تنقل كل الأفراد الى الشاطئ، مقر النشاط.
نادى انطوان متوسلاً من سام بأن يسرع بتجاه الأوقاف علّه يستوقف الباص قليلاً، اظن ان كل صيدا يومها علمت بأمر الرحلة!
و في طريقنا الى وسط البلد حيث شارع الأوقاف إلتقينا بسام عائداً من هناك فأخبرنا ان الباص قد تحرك فعادت اليّ موجة البكاء من جديد. كنت اعاتب انطوان لأنه هو من سبب لي هذا التأخير هذا عدا اني حتى اللحظة لا املك كلمة النشاط التي سأُلقِيها و التي مزقها انطوان!
شعر انطوان بالذنب لكن عزة نفس أنطوان دائماً تَزِيد من جمال اعتذاراته. شدّني من يدي و حمل حقيبتي و توجهنا بسرعة الى المدرسة. هناك شرح انطوان و سام ماحصل معي للإدارة و اخبرته الناظرة ان الباص سيقف بالقرب من حارة حريك حيث شارع زكور و شارع صيدا القديم ليُقِل افراد كشافة من احد المدارس القريبة هناك. خرجنا بسرعة الى بيت جاد لأنه يملك سيارة و توجهنا الى بيروت.
في الطريق لم اقبل ان اتحدث بحرف لأنطوان بينما راح يتهرب عني بكتابة الكلمة من جديد بخطٍ واضح. وصلنا فإذا بالباص يقف تماماً كما اخبرتنا الإدارة، نزلت بسرعة و انضميت الى الركب.
قرأت الكلمة و تم تنظيف الشاطئ و مع مغيب الشمس و جدت انطوان، سام و جاد قد قدموا بتجاه الشاطئ و هم يحملون ثلاجة تبريد. لقد احضروا " بارد" لتوزيعه على كل المشاركين و كانت تحمل المبردات ورقة كتب عليها:" نظف الشاطئ كما تنظف قلبك، الشاطئ وجه المدينة و القلب وجه الحب". بارك السيد أكرم هذا العمل خصوصاً بعد ان اخبروا السيد أكرم ان هذه فكرة شوق. قرر السيد أكرم ان ينضموا الينا ترحيباً بدعمهم لأفراد الكشافة خصوصاً و انهم طلاب جامعيون. فقضى انطوان، سام و جاد بجواري ذالك اليوم. اقترب اليّ انطوان وهمس اليّ:" بعتذر". 
انتهى ذالك اليوم و عُدنا الى صيدا لكن ليس كما اتينا. كنت اُقلد طريقة السيدة ماجدة وهي تغني شايف البحر كما غنتها مع حنكش في السهرة، حيث كانت تنطق حرف الراء بطريقة رقيقة جداً. في تلك الليلة استبدلنا عشاء سهرة عيد ميلاد كلوديا بصفيحة لحمة و ساندوش "شاروما" و جاد يقول:" الله يسامحك ياصباح قنعتينا بغنية ع البساطه". انتهت تلك الليلة و لم ينتهي اثنين، ابتسامات جدتي المبطنة و حنين ذاكرتي الصارخ.
سأعود اذ منحني القدر متسعاً من الوقت...

الاثنين، 9 أبريل 2012

على مشارف السياسة..

                               على مشارف السياسة.. 
كل اللبنانيون يتذكرون جيداً ذالك التاريخ الفيصل في تاريخ وطنهم الممزق, انه 31 من تشرين الثاني من العام 1990. تُخبرنا جدتي دائماً عن هذا اليوم فتقول أنها رقصت وهي تبكي, رقصت فرحاً بنفي الجنيرال في ذالك اليوم الى فرنسا و بكت لإحتلال الجيش السوري على قصر بعبدا. جدّي دائماً  يعود بي الى هذه الحادثة, أو النكسة كما يُسميها هو و جدتي, عندما يُحدثني عن تنوع الأديان من حولي و ضرورة إندماجي العقلاني معها. يقول جدي أن ديني الذي أُفطر عليه و ألتزم به هو خيار لا بد من إحترامه و من شكر الرب على أنه إختار ليَّ هذا الدين دون غيره. يقول لي بأن الرب ماختار لي هذا الدين إلا لأنه يعلم كم من الخير سأنال منه و كم منه سيتلائم معي فكل إبن أدم فُطر لتعاليم دينٍ دون سواه. يقول ليَّ جدّي بأن خياري "الحتمي" بإلتزامي بديني الذي أقتنع به هو تماماً كخيار نفي الجنيرال عون الى فرنسا بينما إحترامي الإلزامي أيضاً لباقي الأديان هو تماماً كقرار إحتلال السوري لقصر بعبدا. فكون اللبنانيون فرحوا بنفي الجنيرال على يد السوري, إثر تحالف سمير جعجع يومها مع السوريين, عليهم أن يحترموا قرارهم و خيارهم و يتحملوا ضريبة ذالك الخيار. إعتناقكَ لدين له ضريبة حتمية وهي إحترامكَ لقراركَ وعليه إحترامكَ لغيره من الأديان. دائماً تتنمى جدتي لو أن الناس إستبدلوا مقولة " لكل فعل ردة فعل" بأن لكل فعل تبعات, فعندما تقول ردة فعل يتبارى الى ذهنك التشنج و التعصب و الإندفاع, بينما تبعات الفعل توحي اليكَ بأن ثمة فعل من بعده لحظات لتفكير و التأمل يعقُبها إتخاذ قرارات, و كل فعل يأتي بعد تأمل يكسوه العقلانية أكثر من تلك التي تستثيرها العصبيات, نفي الجنيرال عون كان فعل و خيار الدين الذي تعتنقه فعل أيضاً لكن ردة الفعل مع الأول كانت إرتجالية إندفاعية, كما يقولان ليَّ جدّي و جدتي, بينما في الثانية فهي تبعات نابعه بعد تأملنا لديننا الأم. إعتناق دين يبث التأمل في الروح و بقدر ذالك التأمل يكون تقبل الأخر, فتقل ردود الأفعال الإرتجالية ليحل محلها تبعياتٌ عقلانية.
منذ ذالك اليوم, حيث لم أتجاوز السابعة من العمر, أصبح بيت العائلة لا يخلو عن الحديث عن الأوضاع اللبنانية السورية, أصوات نشرات الأخبار لا تفارق صالون البيت. في مكتبة جدّي كانت الأحاديث عن كمال جنبلاط كثيرة و عن الشيخ الجميّل أيضاً. كنت أسمع عن حرب الستة أيام و عن الشيوعيين. كانت جدتي تُحدثني عن حروب الشيوعيون في العام 1986 وكيف عادت الجيوش السورية الى بيروت الغربية في حينها. أما أنطوان فكان يخبرني كثيراً هو و رفاقه عن أيام التهجير من الجبل و عن اغتيال الشيخ بيار الجميل في 1984.
كان الجميع في البيت يسرد لي أحداث التهجير و الإغتيلات التي طالت رموز عاصروها و تعلقوا بها. كنت أسمع كل وجهات النظر إلا انه للأمانه ماسمعت قط أحداً يمتدح الجنيرال!.
عندما كنت في الثامنة من العمر تقريباً بدأت الأحاديث تحمل إسماً أكثر بروزاً عن غيره, إنه رفيق الحريري. كانت بيروت تحتفل بتولي الرفيق الشهيد الرئاسة لأول مرة. جدتي كانت دائماً تقول لجدّي تمازحه:" و الله و صار النا كلمة حق بهالبلد". كانت صيدا الأوفر نصيباً من هذا الفرح. كان الناس يعلقون الأمل على الرئيس الجديد حتى من قبل إلقائه للقسم. جدي بدأ يومها بتقديم الكتب التي تحكي عن بيروت على تلك الكتب الفلسفية و الصوفية التي كان يُقدسها و يفخر بعرضها في الصف الأول دائماً. و أنا أعمل معه في تنظيف المكتبة ظهيرة أحد تلك الأيام بدأ التعب يتسلل اليَّ بينما هو كان يقف على كُرسيَه الخشبي المتهالك. طلب مني أن أرفع إليه أحد كتب الراحل نقولا زياده, فرفعت الكتاب دون ان أنظر اليه اذ كان رأسي للأسفل من تعبي, فقال مبتسماً:" من اليوم و رايح راح ترفعي راسك لفوق" ثم وضع يداه على كتفي و نزل فجلس على كرسيه و قربني اليَّه فقال" لبنان كان متل هالكرسي, ضعيف بتسمعي أهات جراحاتو بس تقربي لعندو, بس بعد ماوصل رفيق الحريري على الحكومة راح يتغير لبنان, راح تنسمع فرحة لبنان من بعيد" ثم مدّ يده و قال:" بتشارطي انو لبنان راح يرجع  جنة من السماء" و تراهنَا يومها على ثلاث كاسات من " الجلاب". 
كنت أفخر بلبنان أكثر من أي شي. حتى أن جاد ,صديق أنطوان, قبل أن تقوى العلاقة بيننا كان يناديني " جميلة اللبنانية". كنت لا أقبل أي كلمة  أنتقاص في حق لبنان. 
أذكر أن أول مره " أطرد" بها من المدرسة كانت بسبب لبنان. كنت يومها في المرحلة الثانية تقريباً, لم يتجاوز عمري الثامنة بعد, كان ذالك بسبب الأنسة فضيلة. لم تكن الأنسة فضيلة من معلمات صفي, كانت تعلم المراحل المبكرة في المدرسة. كانت ذات جدور تلتقي مع السوريين الذين قدموا منذ الأزل لتدريس في صيدا. كانت غليظة الطباع حادة اللفظ. دخلت الأنسة فضيلة في صباح ذالك اليوم الى الصف و بدأت تتحدث الينا عن العلم و التعليم. سألت كل واحده عن أحلامها. وصلت الى أحلامي فقلت أريد أن أكون في بيروت. نظرت اليَّ من أعلى نظاراتها فقالت:" و انتي وين هلا؟" و قبل أن أجيب قالت:" أي مزبوط انت هلا بسوريا, برافو كلنا نحيي شوق!!" فقلت مباشرةً:" لا ياأنسة انا بصيدا مش بسوريا". قالت بصوت جهوري:" و صيدا شو! ماصيدا هي سوريا". جنَّ جنوني و رددت عليها:" صيدا تاج سوريا". وقفت هي و قالت: " تعي يابعدي هون, سمعيني شو حكيتي؟". فقلت: " صيدا تاج سوريا". فبدأت تُردد:" مين عيلتك أنتي, مين معلمك هالحكي؟". أنا في حينها للأمانة ظننت أنها تمتدح جدتي التي علمتني كل شي عن السياسة منذ أزلي, فوقفت بكل فخر و قلت لها:" ياأنسة مش لأنو سوريا اقرب لصيدا من بيروت يعني أنو السوريين يقشطونا ارضنا". لم أكن أعلم أني بحديثي هذا زدت فتيل الغيظ في قلب الأنسة فضيلة. أقتربت اليَّ و أمسكت بطرف مريلتي و أخذت تشدني خلفها حتى أوصلتني الى " الناظرة". هناك بدأت تدعي عليَّ مالم أقله و بأني تعديت عليها بالكلام و بأن عليَّ أن لا أعود سوى بجدتي. و للأمانة كنت لا أحب من يُقلل من شأني أو  يتعامل معي وفقاً لعمري الصغير, فغضبت أكثر و قلت:" بكرا بجيبلك ستي تتعرفي أنا مين", يالجبروت غضبي منذ الأزل!
خرجت من المدرسة في ذالك اليوم و لاأعلم أين الوجهة. جدتي و جدّي حريصان دائماً على التعليم و من جيل" قُم للمعلم وافه التبجيل". كنت أعلم أن كل ماسأقوله لن يُقابل الا بغضب منهما و انا لا أحتمل عتب جدتي عليَّ في الوقت الذي كنت أشعر أني على حق!

في الطريق سمعت أحدهم ينادي بسمي فإذ به جاد الذي هو أيضاً طُرد من المدرسة لأنه " علق " مع أحد الطلاب فأنزله ضرباً فطُرد ليعود بوالدته. كنا نحن الإثنان نبحث عن منقذ.
توجهنا كالمعتاد الى القلعة قبالة البحر و بدأ يفكر بحل لموضوعي, أمانةً كنت أفتش عن حل قبل نهاية دوام انطوان لأني أعلم أن العقاب سيُضاعف بحضور انطوان.
فجأة وقف جاد و قال:" بسيطه مابده" فقلت:" شو". قال :" قومي معي". اتجهنا الى المدرسة و خلف سور المدرسة إختبأنا حتى بدأ الجميع بالخروج. طلب جاد مني أن أخبره عن الأنسة فضيلة بمجرد خروجها. وفعلاً أشرت اليها ثم قال :" خلاص روحي اوقفي حد الشجرة متل العادة انطري انطوان و ماتخبري حدا انو اتقلعتي من الصف و المساء بخبرك كل شي". و فعلاً جاء انطوان و عُدنا الى البيت. شعر أنطوان أن ثمة ماأخفيه لكني حاولت التهرب قدر المستطاع. في المساء و أنا أجلس مع أنطوان أمام البناية جاء جاد و سام كالمعتادة. كانا ينظران اليَّ و يبتسمان. وفي طريقنا الى " الدكنجي ابو علاء" كنت أمشي بجانب أنطوان بينما على الجانب الأخر كان سام. فجأه شدّ جاد شعري كي أمشي بالخلف, بجواره حيث كان جاد يُبطئ الخُطى. فبدأ سام يتحدث بصوت عالي لأنطوان و يُغني بينما جاد يهمسُ بأذني بأن أذهب الى المدرسة في الغد و بأن كل شيء انتهى و لست مضطرةً الى اصطحاب جدتي معي. الفرحة لم تسعني و الفضول أيضاً. كنت أُلح على جاد أن يخبرني عن ماحدث فقال لي بأن سام سيخبرني. بالفعل, همس الي سام بأنه بعد العشاء سيقذف من شرفتهم بتجاه شرفتنا ورقة يكتب بها ماحصل. و بعد العشاء كنت انتظر بشغف صوت الحجر على بلور الشرفة لأخرج لإستلام الورقة لكن حدس انطوان كان أقوى على سماع الحجر. فتح الورقة انطوان و قرأ أول جملة:" ياغنوجه قطعت هالمرة". أتبعها بالثانية:" اسمعي بالمختصر هلا أنا و خيك جاد ع ايدك صرنا زعران. لحقنا الأنسة و هددناها أو بتتركك ترجعي ع بكره على المدرسة و تحكي لناظرة انو سامحتك أو بدنا نضرب ابنه بالمدرسة و ماراح يرجع لعنده غير محمل". انطوان و بأسرع من" نسمة الهوى" دخل الى الصالون و قال:" تعي بدنا نحكي". دخلت الى غرفته فقال:" من أخرو و بلا طولة سيرة شو صاير مع الأنسة اليوم". الأطفال حينما تواجههم بأخطائهم يكونون كالقطط تماماً, يهاجمون بكل حروفهم. أخبرته و كلي جرأة فبدأ في اللحظة الاولى منفعل لكنه كان يحاول أن لا يضع عيناه في عيناي كي لا أكتشف إعجابه بما فعلت. بدأ يتماسك, أخذ يتوعد و يُهدد فإذ بجدتي تدخل الى الغرفة. قبل أن تتفوه بكلمة قلت لها كل شيء. ألتف الجميع حولي فشعرت بعظمة ماأنا صانعة. لم أتوقف عن تقليد الأنسة فضيلة في يومها حتى غفوة في حضن أنطوان كالعادة دون أن أشعر.
في صباح اليوم التالي أصطحبتني جدتي الى المدرسة و تحدثت الى ادارة المدرسة فكان لفت نظر للأنسة فضيلة أقل واجب. يومها كنت أشعر بأني رمز بطولي. ماأجمل أن يحمل بعض الرموز في لبنان نقاوة الطفولة. حتى عند عودتي الى المدرسة عُدت محمولةً على الأكتاف بينما جاد كان يُغني:" طلوا الصيادي" ليلتف الجميع من حولي هتافاً و تصفيقاً. 
منذ ذالك اليوم وانا أنظر الى لبنان بعيون عائلتي اللبنانية التي تفخر برمزها المسيحي العادل تماماً كما تفخر برمزها السني. ترقص لهزيمة المسيحي المتخاذل رغم مسيحيتها و تفرح لهزيمة سُنيها المتهاون رغم سُنيتها, فالوطن يبقى فوق و قبل كل شيء.

السبت، 7 أبريل 2012

عودة الغرباء..

                                عودة الغرباء..
فتحتُ عينيَّ هذا الصباح على مار متمدد على الأريكة المقابلة لسريري، شعرت بتأنيب الضمير. أذكر اني غفوة البارحة و انا اتوسل اليه بأن يغادر الى الفندق لأنه لن يستطيع النوم في المستشفى، يبدو ان إلحاح المنوم الذي اعطتني اياه الممرضة في وقتها كان اقوى من إلحاحي على مار. وككل الصباحات، دخلت جوليانا الى الغرفة فستيقظ مار واشرقت الشمس.
"اذا بدك تكتبي بتاكلي كل الترويقه" كان هذا هو شرط مار. هاأنا افتح جهازي و مار كذالك، هو يتفحص ايميلات عمله و انا اتفحص جودة ذاكرتي.
اعود الى زيارتي الأولى لبيروت، فبعد مار مخايل و برج البراجنه توجهنا الى الواجهة البحرية قبالة البحر. وصلنا الى هناك فكانت مواج الدمار اقوى من أمواج البحر. أختفت المقاهي، غاب صوت النرد، تبخرت روائح الأرجيلة، تكثفت رائحة القهوة و جفت أوراق كتب المثقفون. اخذت الأمواج كل ذكريات جدي التي لطالما اغمضنا اعيننا على همساته في كل مساء. اخذ جدي، جدتي و خالتي جيزيل مكانهم على احد الصخور على طرف البحر بينما راحت سارا تسابق الأمواج فاصطحبني انطوان الى بائع طائرات الورق ليشترى لي واحدة منها. راحت طائرتي الورقية تسابق امواج البحر و جدي و جدتي يتسابقون بعضهم البعض في البوح عن تلك اللقاءات الجميلة التي كانا يعمرانها هنا على اطراف البحر. بعدها بدأ الصيادون في العودة الى الشاطئ فغادرنا المكان الى احد المطاعم البحرية التي تكتفي فقط بعمل السمك المشوي و الحمص البيروتي، كان المطعم بجوار كازينو بيروت الأن، اعتقد ان اسمه كان شط بيروت ان لم تخنِّ الذاكرة.
اذكر اننا في يومها اصطحبنا جدي الى حرج بيروت. حرج بيروت اقفلت وقت الحرب لتعاود البلدية فتحها بمجرد وقوف طبول الحرب. 
و بمجرد ان لمحت "زنزوقة العيد" ، المراجيح، هناك في الجوار تحركت الطفولة بداخلي بكل جموح. و ماان بدأت الشمس بالذبول اخذنا اول سيارة اجرة مرت امامنا و غادرنا بيروت. في طريق عودتنا لا اذكر اي شيء لأن التعب اخذ نصيبه مني. و في حضنِ جدتي غفوة.
عندما وصلنا الى البناية وجدنا سيارة سوداء اللون تقف امام البناية بينما سام كان يجلس تحت شجرة الليمون المقابلة لبنايتنا. سام ترجل بسرعة بتجاة انطوان و قال له:" خلينا نروح حد القلعة هلا" فرد انطوان بأنه متعب من الطريق و بأني انا ايضاً متعبة. اصر سام على انطوان و فجأة ارتفع صوت سام و حملني من بين يدي انطوان و قال:" تعي معي هلا لعند القلعة"!. لم يفهم احد سبب إلحاح سام. و فجأة خرجت مرأة من البناية و قالت بصوت عالي:" اخيراً رجعتوا". صمت الجميع فشدني سام من يدي و لحق بنا انطوان و توجهنا الى القلعة البحرية قبالة البحر.
القلعة البحرية ماهي إلا قلعة لحماية أسرارنا و أحلامنا، أمسنا و غدِنا. القلعة هي المكان الذي نتخاصم و نتصالح فيه. دائماً اذا شعرت ان ثمة امر يُخفيه انطوان عني او ثمة امر يزعجه كنت اصطحبه الى هنا حيث القلعة فيبوح لي بكل شيء. ذات مرة قال لي انطوان و بينما نحن نجلس على احد صخور هذه القلعة" مافيي على جيوشك ياصبية فلشو تاخديني على القلعة". 
وصلنا القلعة و بدا التوتر يلوح على وجه كلاً منهما,انطوان و سام,  و حاولوا لأكثر من مرة ان يتحدثوا بطريقة لا أفهمها. وقفت أمامهم و بدأت بالبكاء لأني شعرت ان ثمة مايخفيانه عني. لمحت في عيني انطوان دمعة مازلت اذكرها فزاد بكائي حينما لمحت دمعته، احتضنني انطوان واخذ يردد" ماتخافي، ماحدا بيسترجي ياخدك من هون" لم افهم اي شيء. شدني سام و قال لي:" مافيه شي غير انو انطوان خاف عليكِ لأنو كنتوا راح تعملوا اكسيدونت على الطريق". نظرت الى انطوان فقال لي:" هيك صار". صِغَرُ سني و الذي لم يتجاوز الثامنة في حينها جعلني اصدق ماقاله سام، فأخذت احاول اقناع انطوان بأني مازلت على قيد الحياة. احتضنني انطوان و اخذ يردد" ماتخافي".
بَقِينا على البحر لساعتين و بعدها عُدنا الى بيت سام. كنت اردد على انطوان ان النوم بدأ  يختال عينيَّ علّنا نعود الى البيت. اذكر اني افقت في اليوم التالي وانا في غرفة ماغي اخت سام، يبدو ان النوم غالبني فغفوة في بيت سام. في الصباح، اصطحبني سام الى بيتنا، وجدنا انطوان في الطريق، اخذني و عدنا الى البيت.
لم أسأل عن اي شيء و لا عن تلك المرأة التي شاهدتها بالأمس، لا اعرف حتى الأن لماذا؟
في الطريق الى المدرسة لم يتفوه انطوان بأي كلمة، لا نصائح و لا تحذيرات. عند بوابة المدرسة قال لي بأن لا اخرج من المدرسة ابداً تحت اي سبب و لأي سبب. 
بعد وجبة الغداء، اتيت بحقيبتي،كالمعتاد،  الى انطوان لأبدأ في حل وظائفي. قال لي انطوان بأنه يريد ان يخبرني بأمر ما. نظرت اليه فقال" امبارح اجت ست بتكون صديقة امك الله يرحمه الخاصة و بده تجي اليوم تتزورك. اتصرفي على طبيعتك". فقلت" أسأله عن امي". فقال" بدك تعرفي شي عن امك؟" فقلت" لا ابداً" فقال" لكان منك مظطره تتسألي".
في المساء، أتت امرأة تشعر لأول وهلة بأنها لا تنتمي لهذا المكان، امرأة برجوازية لا تملك ماتقول. اقتربت لسلام عليها، فقالت جملتها التي مازالت بين مسامعي" ماتغيرتي بالمره". فقلت لها" لا ابداً ". و للأمانة قبلتني على جبيني و لم تعانقني. جلست مع الجميع بينما الجميع لم تعدو احاديثهم عن حركة الطيران و الرحلات التي لم تتوفو في وقت الحرب. اعتذرت و قالت ان الوقت قد حان لتُودِعنا. قالت لي" ديري بالك على حالك، ماتتشاقي". ادارت ظهرها و خرجت.
نظرت الى انطوان و بدأت اتحدث كما تتحدث و امشي كما تمشي. فقال انطوان" ماتتمسخري مابيصير, هيدي رفيقة امك" فقلت " ماممكن تكون هيدي رفيقة امي، هي مابتعرف اكتر من انو تلعب بأطراف صابيعه".

انتهى ذالك اليوم الطويل بكلمتين من جدتي" هيدي رفيقة امك، بده تجي تزورنا من وقت لتاني، بتسميه خالتو ريما". 
لست غاضبة من جدتي و انطوان لأنهم  لم يخبروني الحقيقة منذ البداية. هذه امي و ليست صديقة امي. أُدرك خوفهم عليّ في حينها. لن يُضحوا بإبنتهم من أجل امرأة لا تتعدى اهتماماتها عن حدود طلاء اظافرها، لا تعرف عن طفولتي  سوى بعض الملامح!
لم تَعد أمي لزياراتنا سوى مرة واحدة بعد خمس سنوات. ثم زارتنا بعد اربع سنوات. فغابت لسنوات و سنوات حتى عادت تُخبر حقيقتها.

سأقف هنا.. بالفعل بدأ التعب يتسلل اليّ و اظن اني بحاجة الى ان أتوارى عند مار الأن اكثر من اي شيء..
 
للبوح بقية ان أراد القدر..